تُعتبر الكتابات والنقوش الصخرية القديمة المنتشرة على صخور الجبال في مناطق المملكة ثروة تاريخية ذات قيمة عالية، ومن المصادر الرئيسية التي استقى منها المؤرخون كل ما دُوّن ويُدوّن عن تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها.
وتزخر المملكة بآلاف المواقع للنقوش والكتابات الصخرية المنتشرة في مختلف مناطق المملكة.
وفي دراسة له عن الكتابات والنقوش العربية الإسلامية على الأحجار في المملكة العربية السعودية أكد عالم الآثار الدكتور أحمد الزيلعي أن الجبال والصخور في المملكة تحوي أعدادًا هائلة من النقوش والكتابات الأثرية ذات القيمة التاريخية العالية.
ويقول: المملكة العربية السعودية بمساحتها الشاسعة، وتضاريسها المتنوعة، كانت تسلكها كثير من طرق الحج والتجارة الدولية، وبعض طرق القوافل الداخلية، وما يتفرع منها من مسالك ودروب محلية. وعلى هذه الطرق وحولها يقع العديد من القرى والمدن الرئيسية، والمراكز التجارية، والموارد المائية، والمحطات التي يستريح فيها المسافرون من عناء السفر. ونتيجة لهذه الحركة الطويلة من الأسفار والحل والترحال، ولطول فترات الاستيطان البشري في مدن هذه البلاد التاريخية ومراكزها التجارية، أمكن اكتشاف أعداد هائلة من الكتابات العربية الإسلامية المنقوشة على الأحجار في مختلف أنحاء المملكة العربية السعودية. ويمكن تقسيم هذه المكتشفات من الكتابة على الأحجار إلى ثلاثة أقسام، هي:
النقوش الصخرية:
ويقصد بها تلك النقوش والمخربشات المتناثرة على الصخور التي كتبها أصحابها بأنفسهم، أو بإملائها على من كتبها من أصحابهم ومرافقيهم في السفر أو في الرعي، وهي في الغالب لم تُكتب لخدمة غرض محدد كما هو الحال في النقوش الجنائزية أو النقوش التأسيسية، وإنما كتبت لإبراز مهارات من كتبها، وأيضًا للذكرى، أو للترفيه عن النفس من تدوين بعض الآيات القرآنية، والأدعية المأثورة، وبعض الأبيات الشعرية المرواة لشعراء مشهورين من شعراء الجاهلية والإسلام، إضافة إلى بعض الأحداث المحلية الصغيرة، وبعض الأسماء المتعارف عليها في محيط البيئة أو الوسط الذي نقشت فيه هذه الكتابات.
وعلى الرغم من تلقائية تلك النصوص، وربما عدم أهميتها عند من نقشها أو خطها بيمينه سوى ما ذكر من إبراز مهارة كاتبيها في النقش على الصخر، وتدوين اسم الواحد منهم، واسم معارفه، وما يجول بنفسه من توارد خواطر، إلا أن بعضها كان على جانب كبير من الأهمية من حيث حفظه بعض الأسماء المحلية، والأبيات الشعرية القديمة، والأدعية المأثورة، وما تظهره من سمات الخط العربي في زمانها، وأساليب تنفيذه، ومراحل تطوره. ويكفي ما في النقوش الصخرية من أهمية أنها قدمت للمعرفة الإنسانية أقدم نقش إسلامي مؤرخ في سنة 24 هـ/ 644 - 645م، هو نقش زهير المسجل لدى اليونسكو في قائمة التراث الإنساني.
كذلك قدمت النقوش الصخرية المكتشفة في المملكة العربية السعودية نماذج جميلة التنفيذ، واضحة الحروف، جيدة التنسيق، خالية من التنقيط، ولو أن القليل منها وجد منقوطًا، وهو ما يمكن اعتباره دليلاً ماديًّا على أن هذه النصوص عرفت النقط قبل عصر ناصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر بفترة ليست بالقصيرة.
ويكثر انتشار هذا النوع من النقوش الصخرية على جوانب طرق الحج المؤدية إلى مكة المكرمة، وخصوصًا طرق الحج الشامي، وطريق الحج العراقي، وطريق الحج اليمني الداخلي. كذلك أثمرت جهود المسح الأثري اكتشافات مذهلة من النقوش الصخرية المتناثرة في محيط مكة المكرمة، والمدينة المنورة، والطائف، وفي سلاسل الجبال الممتدة في مناطق الباحة وعسير ونجران، وما يتصل بهذه المناطق شرقًا وغربًا حتى حدود المملكة العربية السعودية مع اليمن.
النقوش التأسيسية:
وهذه ليست في غزارة النقوش الصخرية، أو النقوش الجنائزية أو... فما عُثر عليه منها قليل جدًّا، ويتمثل في النصوص التأسيسية التي عثر عليها منقوشة على المنشآت المعمارية الأثرية، وخصوصًا السدود والآبار القديمة، وبعض الأبنية التاريخية، وقليل مما اكتشف من علامات الطرق، ومراسيم توسعتها وحمايتها. وتعود قلة النصوص التأسيسية إلى أن كثيرًا من المباني قد أُزيلت أو تهدمت مع تقادم الزمن، وتوالي الزيادات والتوسعات كما في الحرمين الشريفين، وبعض المساجد التاريخية في مكة والمدينة وجدة والطائف وعشم، وغيرها من مدن المملكة العربية السعودية. ومن أمثلة النقوش التأسيسية وأقدمها تلك التي وُجدت على بعض السدود التاريخية في الطائف والمدينة المنورة، ومنها سدان يعودان إلى عصر الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان 60-41 هـ/ 661 - 680م، أحدهما في الطائف، والآخر في المدينة، إضافة إلى نصوص تأسيسية على سدود أخرى متأخرة نسبيًّا. كذلك وجدت بعض اللوحات التأسيسية في بعض القلاع التاريخية على طريقَي الحاج المصري والشامي، وفي بعض المساجد والأبنية التاريخية في مكة وجدة والمدينة والطائف وعشم، إلى جانب أعداد غير قليلة من العمائر السكنية والدينية المنتشرة في أنحاء مختلفة من المملكة العربية السعودية، وإن كانت تواريخ بعض ما تحمله من نصوص تأسيسية متأخرة نسبيًّا.
ويمكن أن يلحق بالنقوش التأسيسية الأحجار الميلية المنقوشة، وهي التي تحدد المسافات على طرق الحج إلى مكة المكرمة بالفراسخ والبرد والأميال. وقد عُثر على عدد قليل منها على طريق الحج العراقي، وطريق الحج اليمني الأعلى. ويحتفظ المتحف الوطني بالرياض بنقش كوفي، يمكن أن يعد من النصوص التأسيسية، مؤرخ في سنة 304هـ/ 916م، ويتضمن مرسومًا صادرًا عن الخليفة المقتدر العباسي ت 320 هـ/ 932م بخصوص عمارة طريق الحج العراقي إلى مكة المكرمة، وهو الطريق أو الجادة المعروفة باسم درب زبيدة، وقد عثر عليه عالم الجيولوجيا (ك. توتشيل) في منطقة مهد الذهب على الطريق نفسه، ونشره جورج مايلز في عام 1954 م، وأعيد نشره بعد ذلك مرات عدة.
النقوش الشاهدية:
تعد النقوش الشاهدية أو الكتابات على شواهد القبور من أجمل الكتابات المنقوشة على الأحجار؛ لكونها تصنع خصيصًا لخدمة غرض محدد، وتحمل مضامين يجري اختيارها بعناية فائقة، ويقوم بتنفيذها على بلاطة الشاهد في الغالب خطاطون ماهرون ومحترفون، يبذلون جُل عنايتهم في رسم الحروف وزخرفتها، وتجميل بلاطة الشاهد وتحليتها بعناصر نباتية وهندسية فائقة الجودة؛ فجعلت هذا النوع من الكتابات يتفوق على ما سواه من الكتابات الأخرى المنقوشة على الأحجار.
وعلى الرغم من أن شواهد القبور المكتشفة في المملكة العربية السعودية أخذت تنقش منذ القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي بنماذج من الخط اللين، وبصورة خاصة خط النسخ، وخط الثلث، فإن السيادة ظلت للخط الكوفي طوال القرون الخمسة الأولى من الهجرة النبوية الشريفة، إلا أن الخط الكوفي هو من أجمل ما خطت به نقوش القرون الخمسة المذكورة.
وأكثر الأمكنة التي تنسب إليها النقوش الشاهدية في المملكة العربية السعودية هي مكة المكرمة؛ فهي في عداد الأمكنة التي توصف بأنها مكتبة العالم في هذا النوع من النقوش، ومن أكثر الحواضر الإسلامية تجويدًا للكتابة الشاهدية على الأحجار.
وتتميز النقوش الشاهدية في المملكة بأنها تغطي جميع مراحل تطور الخط العربي الإسلامي على شواهد القبور؛ فمنها ما يعود إلى بواكير القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي، ثم مرورًا بجميع القرون والمراحل التاريخية التي مرت بها جزيرة العرب حتى العصر العثماني. كذلك تتميز بأنها تجمع بين جميع الظواهر الزخرفية المتصلة بتجويد الخط وزخرفته وتحليته وتجميله من بسيط إلى مورق ومشجر ومضفور وذي أشكال وسمات هندسية.
وقد لوحظ أن كثيرًا من مضامين الشواهد بالمملكة العربية السعودية لها قيمة تاريخية عالية؛ فقد أمكن من خلال دراسة النسبة أو الانتساب إلى القبائل أو البلدان أو الحِرف معرفة التركيبة السكانية لكل بلدة، بما في ذلك معرفة الأسر المحلية والوافدة، وكذا معرفة المهن والحرف التي اشتغل بها السكان، ومعرفة طبقة الحكام ورجال الدولة، والعلماء، والغرباء الذين توفوا في مكة المكرمة، أو في الطريق إليها.
وتتميز النقوش الشاهدية المكتشفة بالمملكة العربية السعودية بأن كثيرًا منها ممهور باسم الخطاط الذي نقشه؛ إذ إن كل نقاش من أولئك النقاشين شكّل مدرسة أو طريقة خاصة به في الخط والزخرفة الخطية؛ ولهذا يحلو لبعض الدارسين تصنيف بعض النقوش الشاهدية إلى مدارس تبعًا للنقاش الذي أسس تلك المدرسة، ثم متابعيه من أبنائه وأقربائه وتلامذته.. فعُرفت مدرسة مبارك المكي، ومدرسة محمد بن الطفيل، ومدرسة أحمد الحفار، ومدرسة أحمد بن الحسين، ومدرسة علي بن موسى، ومدرسة ابن أبي حرمي المكي.. وغيرها.