في سن الطفولة انغرس في ذهني كما غيري أن «الأسطورة» هي ضرب من الخيال لا يمت للواقع بأي صلة. وبقيت «أناطح» طواحين الهواء في هذا الأمر بخطوات «دون كيشوتية» تابتة وواثقة. وأصف كل شخص أو فكر لا يعجبني، بأنه فكر «أسطوري» طوال حياتي المدرسية والجامعية وما بعدها. وبالصدفة وقع في يدي كتاب مستعار من مكتبة جامعة الملك سعود، لعالم الآثار الكبير الأستاذ «فراس السواح» بعنوان «مغامرة العقل الأولى».
تناولت الكتاب بشيء من الاستهزاء؛ وكلي ثقة بأنني سأقرأه كما قرأت «ألف ليلة وليلة»؛ وأستمتع بأمنيات حالمة لتغيير الواقع. وعندما بدأت بالقراءة لم أستطع التوقف إلا وقت العمل! وكنت أصارع كل متطلبات الحياة العائلية لأطوع الوقت لصالح القراءة. وعندما أنهيت الكتاب ركضت للكتابين الآخرين لفراس السواح، اللذين وقعا بيدي وهما: «لغز عشتار» و»ملحمة جلجامش». ثم صرت أتابع ما يصدره هذا الكاتب الكبير من إصدارات جديدة.
ما شدني لقراءة تلك الكتب هو: الحركة الفكرية المتراكمة والمتنامية للبشر منذ ما قبل الحضارة. فعندما قرأت في «مغامرة العقل الأولى» أن اليشر الأولين؛ لما لاحظوا أن حبة الحنطة التي هي «ميتة» بمفهومهم؛ إذا وضعت في الأرض؛ وسقيت ماء؛ فإنها تنبت سنبلة تحمل عشرات الحبات. ثم بنوا تصورهم على تلك الملاحظة، حيث اعتبروا أن الحياة مقسمة إلى: عالم علوي وآخر سفلي؛ ولا وجود للفناء؛ وأن العالمين العلوي والسفلي مرتبطين ببعضهما البعض؛ وهذا هو «تناسخ الأرواح». عندها أدركت أن الأسطورة هي الفكر السائد في ذلك الوقت. ثم تولد لدي سؤال: ما هي الأسطورة؟ وكان الجوواب جاهزاً في «ملحمة جلجامش».
الأسطورة هي أن التغيير أو الازدهار أو التطور تصنعه الآلهة! ولذلك أبطال الأسطورة كلهم آلهة؛ ولا وجود للتدخل البشري؛ وإله العالم السفلي واحد بمفهوم أول حضارة في التاريخ؛ وهو الإله «موت»! بينما آلهة العالم العلوي متعددين؛ فهناك إله للمطر وآخر للقوة وثالث للتراب ... إلخ؛ ولكن إلهة الخصب والعطاء والحب والجنس والتكاثر؛ أي التطور والازدهار الإنساني؛ هي «عشتار»! وتحولت باللغات والحضارات الأخرى إلى «ايزيس» و»فنيرا» أو «فينيسيا» أو غير ذلك من التسميات!
المذهل في ذلك كله هو أن آلهة الشر ذكور؛ وآلهة الخير أنثى واحدة؛ وذلك لأن المجتمع البشري في ذلك الوقت كان «أمومي»؛ أي أنه يعتبر المرأة هي مصدر المجتمع؛ وهي التي تمتلك الحق بقيادته؛ ولا دور للرجل سوى أنه مكمل لها! كما أن الأسطورة تحمل في طياتها معنى عميق جداً؛ وهو أن الإنسان قبل الحضارة وبدايتها لم يكن يمتلك المعطيات العلمية الأولى؛ التي تؤهله للتغيير! ولذلك كان يبحث عن الخلود الذي تمنحه الآلهة.
** **
- د. عادل العلي