ما الكتابة؟ ولماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟ ومع أن هذه الأسئلة قديمة قدم الكتابة نفسها، إلا أنه من مجتمع إلى آخر، ومن عصر إلى ما يليه، تعد الأسئلة العتيقة المتجددة بتجدد مداد الكتابة، ومتنامية الفضاءات بتنامي مجالاتها المعرفية، ووسائطها التي اندمجت معها إلى حد أصبحت فيه «الوسيلة هي الرسالة»، التي كان من أبرز منظريها في أوائل الستينيات الميلادية مارشال ماكلوهان، الذي تنبه إلى تحولات بدأت حينها تلوح بواكير ملامحها عبر علاقة تكافلية، واصفاً «التشويش»، ومآلاته في بناء النص، بدءاً بالمرسل، ومنه إلى مجاله، وصولاً إلى المتلقي، الذي سيعقد علاقة مزدوجة مع نسيج من العلاقات التكافلية، التي وصلته أو التي سيتوصل إليها، وربما لن يستوقفه السؤال عن الكاتب، أمات؟! أم ما يزال يتخضرم؟!
تلك التكافلية تتخذ اليوم شكلاً جديداً، في صورة أدق ما يكون فيها تماهي التكافل بين ذكاءات متعددة بين ذكاء المتلقي، وذكاء اصطناعية، التي لا يمكن معها لمجرد الانطباع أن يعطي توصيفاً منهجياً وعلمياً لتتبع نسيج هذه الذكاءات (المدمجة) في ذكاءات «ما فوق التلقي/ ما بعد الفردانية»، وبين سياقات وأنساق ما بعد التواصل النصي في تلقي ما فوقيات الكتابة!
لم يعد الحديث هنا عن مقاصد الكاتب، ومصفوفات معادلات الكتابة: نص مفتوح وتلق مغلق، ونص مغلق وتلق مفتوح، ونص مغلق وتلق مغلق، ونص مفتوح وتلق مفتوح؛ مع أن جهود القدماء في الثقافات (الحية) كان لهم إسهاماتهم «المرحلية»، التي لا يمكن تجاهلها، كما لا يمكن أن تكون لا الأداة، ولا المنهج، ولا الاشتغال أيضاً، عندما يصل بنا التلقي وذكاءاته إلى هذا الحد من التعاليات، التي يمكن وصفها مفاهيمياً في هذه العجالة بـ«التناصكنولجي».
وإذا ما ألقينا نظرة على منطلقات التلقي التي ظهرت أيضاً مطلع الستينيات الميلادية، وامتداد جذورها في الشكلانية الروسية، والظاهراتية، والتأويلية - مثلاً - في مقاربة ربما لفك اشتباك بين من رأوا أن هذه فلسفات، وبين آخرين اتخذوها في دراساتهم «نظريات»، وفريق آخر، وظفها بوصفها مناهج علمية بحثية.. وصولاً إلى جهود المدرسة الألمانية (كونسطانس)، وما أمدها به فلاسفة هذه المدرسة أمثال: هانز ياوس، وفولفجانج إيزر، من منطلقات (إجرائية)، حديثة أبرزها: أفق التوقعات، وملء الفجوات، والمسافة الجمالية.
وبإيماءة إلى الموقع الذي أصبح يشغله القارئ، سنجد المتلقي من خلال شبكات التعاليات النصية عبر الأنساق النصية الترابطية التفاعلية التشاركية، أنه يحتل موقعاً لم يعد معه الحديث عن النص «الفائق»، الذي أنجزه القارئ إلا من قبيل الحديث عن عتبات مرحلة اتصالية انتقلت اليها المعرفة الإنسانية خلال العقدين الأخيرين، مختزلة الكثير من المراحل السياقية، ومخلفة في الوقت نفسه (لا متناهيات) من الفجوات الأنساقية!
إذن: لم تعد تقف أفعال القارئ عند حدود التشاركية النشطة، في إعادة إنتاج النص، بعد أن أصبحت هنا التشاركية مزدوجة وتشبيكية، متجاوزة إلى إنتاج (المحتوى)، إذ لم تعد (المسافة) الجمالية، كأحد مناظير الرؤية - مثلاً - مقارنة بهذه الذكاءات، بالمفهوم ذاته، بعد أن أصبحت المسافة الجمالية «الافتراضية»، مسافة ذات اعتبارات معيارية، وربما رتبية، بعد أن تحول الوسيط إلى متغير مستقل في عمليات التلقي، أصبح فيه الذكاء الاصطناعي قارئاً «علمياً»، مضمراً، في القارئ الضمني الذي كان الهم (الأول) للكتابة.. ذات مداد!
* ربما استعصت الكتابة على القصد.. وأغرق طوفان تلقيها الكاتب.. وما كتب!
** **
- محمد المرزوقي