تقديم المترجم: هنا ورقة نوعية للمستشرق الهولندي الراحل البروفيسور يوهانس يانسن (1942-2015). حصل يانسن على الدكتوراه في اللغة العربية عام 1974 من جامعة لايدن الهولندية. أقام في مصر منذ عام 1966 ثم عمل، لعدة سنوات، مديراً للمعهد الهولندي في القاهرة. ومنذ عام 1983، أصبح أستاذاً مشاركاً للدراسات العربية والإسلامية بجامعة لايدن في هولندا. وتُرجم أول كتبه «تفسير القرآن الكريم في مصر المعاصرة» (لايدن: بريل للنشر، 1974) إلى البوسنية والتركية والعربية والإندونيسية. أصدر 13 كتاباً في الدراسات الإسلامية؛ منها كتابان مهمان ومرجعيان باللغة الإنكليزية: «الفريضة الغائبة: عقيدة قتلة السادات والصحوة الإسلامية في الشرق الأوسط» (نيويورك: ماكميلان للنشر، 1986)؛ و«الطبيعة المزدوجة للأصولية الإسلامية» (لندن: هيرست وشركاه للنشر، 1997). كما أنه مؤلف ترجمة لمعاني القرآن باللغة الهولندية. ويقوم يانسن هنا بتحليل بعض فتاوى اثنين من أبرز شيوخ الأزهر في النصف الثاني من القرن العشرين، وهما محمود شلتوت وعبد الحليم محمود، ويصل إلى استنتاجات نوعية تستحق التأمل بعمق. (العيسى)
الجزء الأول من إجابة المفتي يتعلق بالجهاد. ووفقًا للمفتي، فإن معنى كلمة جهاد في القرآن والسنة لا يقتصر على القتال فقط من الناحية الاصطلاحية ولا اللغوية. وإذا كان هذا صحيحا، فإنه يقوض الكثير من محتويات كتاب الفريضة الغائبة. ولكن هذه الحجة قد لا تقنع مؤلف الفريضة ومحاربيه نظراً لأن اهتمامهم ليس لغوياً. فبالنسبة لهم، فإن الأمر القرآني: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة، 216] يعد دليلاً دينياً كافياً لإثبات صواب معتقداتهم.
ويحاول المفتي في القسم الثاني تصحيح التفسير المتشدد لآية (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (لمائدة: 44( ويجادل المفتي أنه من الواضح من سياق هذه الآية أن تعبير «ما انزل الله» يشير إلى التوراة، وليس الشريعة الإسلامية، كما أن الآية تخاطب اليهود في عصر النبي وليس الحكام الحاليين في عواصم العالم العربي. كما أن الآية تجعل الضمير المقصود في «يحكم» يعود إلى «الحاخامات وعلماء الدين» وهو ما يتفق معه معظم الباحثين الغربيين.
ويناقش القسم الثالث مسألة ما إذا كان يمكن وصف مصر كـ «دولة إسلامية»! ويسخر المفتي من وجهة نظر مؤلف كتاب الفريضة بأن مصر ليست دولة إسلامية مشيراً على سبيل المثال: «الصلاة تقام والمساجد مفتوحة في كل مكان، وتدفع الزكاة ، ويحج الناس إلى مكة، وحكم الإسلام منتشر باستثناء مسائل محددة كالحدود الإسلامية والربا، وأشياء أخرى ترد في قوانين البلد، ولكن هذه الاستثناءات لا تجعل البلد والشعب والحكام مرتدين لأننا نؤمن بأن حكم الله أفضل»! ولكن المفتي يؤكد بوضوح أنه لا ينبغي للمسلمين أن يذعنوا لهذه الاستثناءات السلبية ولكن يجب عليهم أن يعملوا بقدر طاقتهم لتطوير تطبيق الشريعة ليشمل حتى أصغر التفاصيل!
ويناقش القسم الرابع مشروعية قتل المستبد. ويقدم الشيخ عدة أحاديث توضح أن الدين لا يشرعن فضلاً أن يفرض الثورة على الحاكم الذي يقيم الصلاة. ويناقش المفتي اقتباسات قرآنية استخدمها مؤلف الفريضة لإثبات وجهة نظره في هذا الصدد، ويضع تلك الاقتباسات في سياقها القرآني. ومجدداً لا تدعم تلك الآيات عندما تفسر في سياقها أفكار المتطرفين، ولذلك يصف المفتي موقف المتطرفين بآية قرآنية: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) [البقرة، 85]. هذه هي صيحة القتال لكتاب الفريضة الغائبة نفسه التي تستهدف المسلمين الذين لا يتفقون مع وجهات نظر كتاب الفريضة الغائبة المتطرفة. لقد استخدم كتاب الفريضة هذه الآية عندما تحدث عن رفض بعض المسلمين المتهاونين إضافة «الجهاد» إلى قائمة «أركان» الإسلام بجانب الصلاة والصوم والزكاة والحج. إن هذا التفسير مقتبس مباشرة من القرآن (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) [البقرة، 85]. وتعد الطريقة التي استخدم فيها المفتي هذه الكلمات القرآنية لتوضيح التفسير السياقي للقرآن مثيرة للاهتمام للغاية.
ويناقش الجزء الخامس ما يسمى بـ«آية السيف»: (فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ? فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ? إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [التوبة، 5]. ووفقاً لكتاب الفريضة، فإن هذه الآية «نسخت 104 آيات أخرى في 48 سورة مختلفة». ويستخدم المفتي مرة أخرى السياق لإبطال هذا التفسير المتطرف. ولا يجد من الضروري أن يسلك مسار نظرية النسخ الزلقة نظراً لأن آية السيف تنتهي على النحو التالي: (فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ? إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). ثم نشعر نبرة يأس في كلام المفتي وهو يسأل مستنكراً: «كيف يمكن لأي شخص أن يشرعن ، على أساس آية السيف قتل إنسان مسلم يصلي ويدفع الزكاة ويقرأ القرآن؟!». ويشير المفتي إلى أن هذه الآية موجهة إلى الوثنيين العرب الذين عاشوا في شبه الجزيرة العربية في وقت النبي ولم يكن بينهم وبين النبي معاهدة. ثم يتساءل جاد الحق مجدداً بشكل استنكاري: «هل يمكن تطبيق هذه الآية بشكل عام لتبرير اغتيال الحكام المعاصرين ؟ كلا، بالتأكيد»! .. يتبع
** **
ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى - الدار البيضاء
hamad.aleisa@gmail.com