لقد شهد الفكر العربي، والعصور الأدبية منذ بواكيرهما المناظرات بشتى أنواعها، ولم تقتصر هذه المناظرات على جانب، أو بعد محدد؛ أي الأدبية منها، أو الفكرية، بل تخطته إلى جوانب أخرى، من قبيل المناظرات اللغوية، والكلامية، والفلسفية وغيرها من الأشكال..
ولعل أولى أشكال المناظرات الأدبية - إن جاز لنا عدّها كذلك - هي (المعارضة الشعرية) التي عرفها الشعراء منذ عصر ما قبل الإسلام كتلك التي دارت بين الشاعرين امرؤ القيس، وعلقمة الفحل في أيهما أشعر، والتي حكمت فيها أم جندب زوج أمرؤ القيس بتفوق شاعرية علقمة الفحل.
وعدا ذلك كثير مما كان يحدث في الأسواق ومواسم الشعر حينذاك، وليس ببعيد عن عصر الإسلام وبعده بقليل، سيعرف الشعر العربي نوعاً جديداً من أشكاله، ألا وهو شعر النقائض الذي يعد صورة من صور المناظرات، أو المعارك الأدبية والثقافية، من ذلك ما دار بين الشاعرين جرير والفرزدق وغيرهما من الشعراء، وبقدر ما كانت هذه النقائض تعمد إلى تقبيح الأشياء الحسنة، أو تحسين الأشياء المستقبحة، إلا إنها أثرَت الشعر العربي وأمدته بكثير من القصائد التي امتازت بلغة شعرية تميز بها الشعراء القائلون بها...
وإذا ما تجاوزنا العصر الأموي وصولاً إلى العصر العباسي فإننا سنشهد توسعاً كبيراً في فن المناظرات، إذ شهد هذا العصر ازدهاراً واسعاً، فلا تكاد تخلو مجالس الخلفاء والأمراء منها، فكانت تكتظ بالمتناظرين وهم يتحاورون في شتى المسائل، ولعل مرد ذلك يعود إلى أمرين: الأول هو الاستقرار النسبي الذي ساد العصر العباسي الأول مما شكل فضاء ومساحة للحوار، والآخر عناية الخلفاء بالفكر والثقافة والأدب فكانت مجالسهم تضج بالمناظرات، وعدا ذلك هو الثراء المعرفي والفكري واللغوي والأدبي، فنشأت المدارس والاتجاهات الفكرية والأدبية، كالمتكلمين، والمناطقة، وعلماء النحو ورواة الشعر، وكل ذلك أسهم بشكل فريد في تشكيل ملامح هذه المناظرات توافقاً واختلافاً على حد سواء.
لقد شهد هذا العصر مثلما سنجد في العصر الحديث، شكلاً آخر من أشكال المناظرات لا يقوم فقط على الأفراد، بل على النزاع بين القديم والجديد، والمحافظين والمجددين، فضلاً عن اختلاف المدارس النحوية كالبصرية والكوفية وغيرها كثير من التشظيات التي تؤدي إلى انشطار رأي الناس إلى فريقين بين مؤيد ومعارض، وأكثر من ذلك فقد عرف العصر الأندلسي مناظرات طريفة كالمناظرة بين السيف والقلم...
ولعل من أهم المناظرات التي عرفها العصر العباسي (وهي كثيرة ولا مجال لحصرها) مناظرة أبي سعيد السيرافي ومتى بن يونس، أي بين النحاة والمناطقة التي ذكرها أبو حيان التوحيدي في كتاب المقابسات، وكتاب والامتاع والمؤانسة، وكذلك ما يمكن عدّه بالمناظرة بين أبي حامد الغزالي في كتاب (تهافت الفلاسفة)، والذي ردّ عليه ابن رشد في كتاب (تهافت التهافت).
والملاحظ عن هذه المناظرات في العصور التي تقدم ذكرها إنها كانت تأخذ طابعاً معرفياً لعرض الأفكار وبسطها، مع عدم إنكار الطابع الخلافي فيها الذي تتباين حدته في المدارس والاتجاهات فكرية كانت أم لغوية أم أدبية.
وفي العصر الحديث اتخذت المناظرات شكلاً وبعداً آخر، بما يمكن وصفه بـ(المعارك الثقافية)، لأنها اتخذت طابع الحدة والشراسة التي قد تصل أحياناً حد التسطيح الفكري للآخر وتسخيفه، بل قد تتعداه إلى التسقيط المشخصن، أو التخوين وممارسة الإقصاء، أو الإلغاء بحق الآخر، وهو دليل على التعصب الفكري، بل انغلاقه، فضلاً عن عدم قبول رأي الآخر.
ولعل شواهد كثيرة دالة على ذلك، وإن تباينت ردود أفعال أطراف المناظرة أو المعارك الأدبية والثقافية، من ذلك ما نجده في المعارك الأدبية بين عباس محمود العقاد ومصطفى صادق الرافعي، وما شاب هذه المناظرات من عنف رمزي، وشراسة في الرد، ولا سيما عند العقاد مما لا يمكننا نسبته إلى الفكر والوعي الثقافي والأدبي الذي يحمله، مهما كانت الأسباب الكامنة وراء ذلك، ولم يقتصر الأمر على الرافعي فحسب، بل مع كثير من زملائه وخصومه ومناوئيه على حد سواء.
وفي العراق كما في مصر، تشهد لوناً آخر ليس أقل حدة من ذاك الذي كان بين العقاد وخصومه، كالذي كان يجري بين جميل صدقي الزهاوي، ومعروف عبد الغني الرصافي على صفحات الجرائد، وكانت أغلب المعارك الأدبية تدور حول الشعر وموضوعاته وشاعرية كل منهما، فضلاً عن اختلافهما حول الآراء السياسية، ولكن على الرغم من حدة الخصومة بينهما، ما كان من الرصافي إلا أن بكاه بعد رحيله وزيارة قبره.
وإلى جانب ذلك نجد مناظرات ثقافية وصفت بالحوار الفكري كانت أقل حدة في ردود الأفعال، وإن لم تخل منها، ومنها الحوار الفكري بين الدكتور حسن حنفي، والدكتور محمد عابد الجابري الذي دعت إليه مجلة اليوم السابع في عام 1989، وامتد لأسابيع على صفحاتها ليناقشا موضوعات من قبيل: الليبرالية وقضايا فكرية أخرى ذات طابع إشكالي تخص الفكر العربي، ومع كل ذلك وصلت وانتهت إلى حد التخوين!، وغيرها كثير من المناظرات بين الشعراء والمفكرين التي لا مجال لذكرها جميعاً ها هنا.
وفي ختام القراءة الموجزة للمناظرات أو المعارك الأدبية والثقافية تفضي لنا هذه القراءة إلى مؤشرات يقف في مقدمتها: إن هذه المناظرات شكلت إضاءات في مسيرة الفكر والأدب وعكست وعياً فكرياً وثقافياً أسهم في ثراء الثقافة والوعي المعرفيين لدى متابعيها وقرائها، وهو ما يعد الأمر الإيجابي فيها، إلا إنها في الوقت نفسه عكست مؤشرات سلبية لأصحابها، جعلتنا كقراء ومتابعين نغير الكثير من قناعاتنا بمؤشرات ثقافة ووعي أصحابها، وهو ما دعا إلى أفولها؛ (أي المناظرات) وانحسارها في حاضرنا اليوم، ليس بسبب من ذلك فحسب، بل لعل انحسار القراءة الورقية، بل حتى الإلكترونية منها، فضلاً عن ظهور وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت بديلاً عن صفحات الجرائد والمجلات، فباتت هذه المواقع مساحة وفضاء لتلك المناظرات، وإن كانت أقل ظهوراً منها على ما سبق، زيادة على سعة المشاركة في هذه المناظرات أو المعارك الأدبية والثقافية، إذ أتاحت للجمهور في هذه الوسائل المشاركة فيها، ولم تقتصر على النخب الثقافية، أو رموزها....
** **
د. ماجدة هاتو هاشم - باحثة وأكاديمية من العراق
dr.majedahatto@yahoo.com