النقد هو عقل الثقافة ومحور أي مشهد ثقافي، وبغياب النقد تنطفئ كل مفاعيل الحياة الثقافية، إذ لا ينهض أي مشهد ثقافي إلا على قيمة الصراع، أي الاختلاف. وهذا هو ما يفسر طقس الخمول المخيم على أجواء الثقافة العربية بوجه عام. هناك نقد بطبيعة الحال ولكنه من ذلك النوع المدرسي التنظيري الذي لا يحتدم بالنصوص ولا يراقب الظواهر الأدبية والفنية، وبالتالي يعجز عن توليد الأسئلة وإثارة القضايا، وكأن المثقف العربي صار أميل إلى السكون والاستجابة لما تبرمجه المؤسسات الثقافية الكبرى المعنية بإغراق المشهد بالجوائز وتنجيم الأدباء. وهذا هو ما يفسر أيضًا امتلاء المشهد العربي بالروح الاحتفالية المتمثلة في مهرجانات توقيع الكتب واستجلاب أشباه المثقفين من الظل لتكريمهم، وإتخام المشهد بالمسابقات الخاوية وهكذا. وكل ذلك إنما يعني تحييد القيم العقلانية في عملية إنتاج الثقافة وما يستتبع ذلك من استدعاء القيم العصرية المتمثلة في الديموقراطية مثلًا، بما هي قرين الفعل الثقافي.
وأي إطلالة على الصفحات الثقافية - مثلًا - ستكشف عن غياب فاضح للقضايا الجدلية الكفيلة بتحريك المشهد، مقارنة بالمادة الإخبارية والمقالات الخاملة والحوارات الباردة والنصوص البائتة. كذلك الصالونات الأدبية الأهلية يُلاحظ عزوفها عن طرح القضايا الأدبية الفنية الساخنة لصالح حفلات العلاقات العامة، وهذا هو ما حدث مؤخرًا بظهور الندوات الأونلاينية عن طريق تطبيقات (الزوم) وغيره من المنتجات التكنوثقافية، حيث كثافة الندوات والأمسيات الأدبية الخالية من أي قيمة اختلافية صراعية، وهو الأمر الذي يكرس حالة الخمول في مشهد مزدحم بالأسماء العاطلة عن الفعل الثقافي الجاد، ومن جانب آخر يعزز حالة ازدهار البؤس الثقافي، حيث يتحول الفعل الثقافي بمجمله إلى منظومة صور شكلانية لا تلامس جوهر الفعل الثقافي الذي يفترض به أن يكون جزءًا من حركة تاريخية اجتماعية.
حالة التململ الثقافية هذه مجرد مؤشر على خيبة إبداعية تتجاوز الحيز الثقافي إلى الفضاء الاجتماعي، إذ تدلل على هشاشة الذوات المشتغلة بالشأن الثقافي، واستمرائها فكرة التطامن مع المؤتلف والنأي عن فضائل المختلف، في الوقت الذي تؤكد فيه أن الفعل الثقافي ليس من أولويات أي مؤسسة معنية بالثقافة. وهو مآل يقود إلى مساءلة الإعلام الثقافي بكل أدواته ومنصاته، كما يضع الجيل الجديد المتمرد على قوالب التعبير والنشر المكرسة أمام لحظة استحقاق إبداعية محورها القيم الأدبية المحقونة بجدلية السؤال. وهذا بالمجمل يحيل إلى لحظة تخثر إبداعي لا تنفصل بحال عن لحظة الهبوط الحضاري للإنسان العربي. إذ لا يمكن للفعل الثقافي أن يتوهج عبر مناظرات أدبية متعالية معرفيًا وجماليًا في الوقت الذي يعاني فيه المجتمع من حالة انهزامية موجعة. وفي الوقت الذي تعرض فيه أي ذات ناقدة للنفي والحصار والإخراس.
وهنا لا بد من الانتباه إلى خدعة الثقافة المهيمنة، حيث بدت الثقافة الدينية بخطابها الساطي تفرض برنامجها الثقافي في الفضاء العام، وهذا هو بالتحديد ما دفع طابورًا طويلاً من المثقفين إلى التخلي عن القضايا الأدبية الفنية لمناظرة حالة الإسلام السياسي، التي لم تسيطر على الفضاء العام وحسب، بل امتدت إلى فضاء المجتمع المدني المنذور أصلًا للعمل كمختبر لتوليد الأفكار والجماليات. وقد كان لذلك الانحياز ضريبته حتى على إصدارات الكتب، حيث بدت الأولوية عند بعض النخب الثقافية متمثلة في مواجهة مد خطاب الإسلام السياسي ولو على حساب تعطيل خطابات الأدب والفن والجمال. كما استدرجت فئة نخبوية أخرى ناحية وسائل الميديا الساخنة المتمثلة في موقع (تويتر) مثلًا، باعتباره منبر المواجهات الوقتية الصاخبة، الأمر الذي أثر بشكل لافت على أدب المناظرات، إذ لا تتسع تلك المنابر لأي مناظرة جادة، كما أن انفتاحها العام لكل متطفل على الثقافة من عديمي الخبرة المعرفة يسلبها ذلك العمق الضروري لأي حالة اختلاف.
** **
- محمد العباس