تحضر الثنائيات الضدية وغير الضدية في حياتنا بقوة؛ فنصحبها، ونتأثر بها، وترتبط بنا؛ فتسهم في تشكيل حياتنا، وتؤثر في رؤانا الفكرية والثقافية والاجتماعية، ومن ثم تؤثر في إبداعنا، بوصفه نشاطاً اجتماعياً. وتعد الثنائيات -أيضاً- مفتاحاً من مفاتيح مقاربة الإبداع الأدبي؛ فترشدنا إلى تلمس مواطن الجمال فيه، وتسهم في تأويله.
وإذا كانت فكرة الثنائيات الضدية تقوم على فكرة التضاد والتناقض في الأشياء، فإن فكرة الثنائيات غير الضدية تتجاوز هذا المفهوم، وتتوسع فيه؛ فتشمل علاقات عدة، مثل المجاورة، وغيرها.
ومن هنا يمكن القول إن الثنائيات الضدية تتمثل في بعض صورها في استحضار طرف عند ذكر الآخر، في سياقات معينة.
وفي هذه المقالة سأتحدث عن ثنائية غير ضدية، تتمثل في ثنائية النار والفراشة. وتبدو للوهلة الأولى غرابة هذه العلاقة الثنائية. ولتوضيح الصورة أقول: قالت العرب: أجهل من فراشة؛ لأنها تقترب من النار فتحترق. وكما هو معلوم، فإن الفراشة ضعيفة جداً وهشة، وحسبها من النار اللهيب المنبعث منها؛ فهو كافٍ للقضاء على الفراشة، ومع هذا تقترب منها؛ فتحترق.
وهكذا، برزت هذه الثنائية بوصفها رمزاً لبعض العلاقات الإنسانية في صور مختلفة. ومن أوضح الأمثلة الواقعية على هذه الثنائية ما نجده عند بعض المشاهير في وسائل التواصل الاجتماعي؛ فهم كالفراشات التي تقترب من النار فتحترق. والنار هنا ترمز إلى الشهرة والمال، ومع علمهم بخطورتهما إلا أن بعضهم يصر على الاقتراب منهما بجهل؛ فيحترق. واللافت أن الأخطاء تتكرر، ومن ثم يتكرر الاحتراق، ومع الأسف تظل سلطة حب الظهور/ الشهرة، وجمع الأموال بأي طريق، مسيطرة عليهم؛ مما أدى إلى وقوعهم في أخطاء متكررة، أوقعتهم في مشكلات مع الجهات الرقابية؛ بسبب إيقاعهم الضرر بمجتمعهم؛ فخسروا أنفسهم. ويمكن النظر من هذه الزاوية إلى بعض كتّاب الأعمدة الصحفية، اليومية أو الأسبوعية، فليس كل كاتب قادرًا على الكتابة اليومية بالمستوى نفسه؛ فيظهر التفاوت الكبير في كتاباته، وربما أحرق نفسه بوصفه كاتباً.
ولو حفرنا في تراثنا الأدبي عن هذه الثنائية فسنجدها حاضرة في نماذج عديدة، مع اختلاف الرمز. ويمكن الإشارة في هذه العجالة إلى بعض تلك النماذج. وبداية أذكر فكرة الثأر بوصفها سلطة سيطرت على طالب الثأر، ويمكن أن تكون النار رمزاً أو معادلاً موضوعياً للثأر، والفراشة كذلك بالنسبة إلى الشاعر/ طالب الثأر. وأمثل لذلك بالشاعر الجاهلي الزير سالم الذي أفنى عمره سعياً للثأر لأخيه كليب؛ فقرر أن يفني أبناء عمومته بني بكر ثأراً لأخيه؛ فأشعل حرباً لعقود عدة من الزمن، وكلما أوغل في القتل زادت رغبته في قتل المزيد. ولست هنا بصدد البحث عن الحقيقة التاريخية الغائبة والمضطربة لحياته ومقتله؛ فشخصيته تحولت إلى أسطورة عبر الزمن، وسيرة تروى عبر العصور، وفي كل حقبة زمنية يضاف إليها. الذي يعنيني هنا سيطرة فكرة الثأر عليه، وأصبحت شغله الشاغل، واقترابه منها، والتصاقه بها، يشبه اقتراب الفراشة من النار؛ فمات الزير أو قُتل في النهاية، بحسب اختلاف الروايات، بعد أن عاش حياة قوامها الحرب والقتل بحثاً عن الثأر، وأشغل قومه وبني بكر، والأقوام المتحالفة معهما لسنوات طويلة، وأدخل الحزن إلى كل بيت من بيوت تلك القبائل المشاركة في الحرب.
وقريب من هذا ما نجد عند الشاعر الجاهلي امرئ القيس، الذي كان يعيش بعيداً عن والده الملك بسبب طيشه وعبثه وترفه، وعندما جاءه خبر مقتل والده الملك قال: ضيعني صغيراً، وحملني دمه كبيراً، وقال: اليوم خمر وغداً أمر. وسعى إلى الثأر لأبيه، فلجأ إلى أخواله من بني تغلب فأعانوه على الثأر، ونال من القتلة، لكنه لم يكتفِ بذلك، ولم يقنع، فانصرفوا عنه؛ فلجأ إلى قيصر الروم طلبًا للعون، وفي طريق عودته مات، ويقال مات مسموماً بحلة مسمومة أهداها له القيصر، وظهرت القروح على جسده؛ لذا لُقب بذي القروح. فطلبُ الثأر كان النار التي أحرقت الفراشة.
ويمثل الشاعر الجاهلي الشنفرى، وهو أحد الشعراء الصعاليك، مثالاً لثنائية النار والفراشة؛ إذ أقسم أن يقتل مئة رجل من قوم، وعاش حياته ساعياً ليبر بقسمه، ويقال إنه تمكن من قتل تسعة وتسعين رجلاً من أولئك القوم، لكنهم تمكنوا منه فقتلوه، ويروى أن رجلاً ركل جمجمته بعد مقتله فمات الرجل، واكتمل العدد مئة، فأبر بقسمه بعد مقتله. ومن هنا كان الثأر/ النار سبباً في إحراق الشنفرى/ الفراشة.
ولو انتقلت إلى فكرة رمزية أخرى في ثنائية النار والفراشة، تمثلت في شخصية شاعر العربية أبي الطيب المتنبي، الذي عاش متنقلاً بين الممدوحين طلباً للإمارة، وفي سبيل ذلك عاش حياة مضطربة، وكثر خصومه من النقاد والأدباء والمقربين من الأمراء والولاة، وأحياناً من الأمراء أنفسهم نظراً لارتفاع مكانته، وكثرة ما يحصل عليه من عطاء، ولطموحه الكبير. وهكذا كان طموحه الكبير في الحصول على الإمارة سبباً من أسباب شقائه في حياته، رغم ثرائه، فكان يعيش متنقلاً بين الإمارات، ويضطر أحياناً إلى الهرب؛ فطموحه كان النار التي أحرقته. ورغم نجاحه في مواقف عدة عن طريق الهرب والتنقل إلا أن نهايته كانت القتل بسبب شعره. فالمتنبي من الشعراء الذين قتلهم شعرهم؛ فالشعر كان هو النار التي أحرقت الفراشة/ الشاعر.
وقريب من هذا، مع الاختلاف البيّن، ما يبرز في شعر الشاعر العباسي أبي تمام الذي كان مولعاً بالتجديد في الشعر، وهو صاحب مدرسة شعرية، بدأت جذورها على يد بشار بن برد، وتطورت على يد مسلم بن الوليد، واكتملت على يد أبي تمام. وهذا السعي الحثيث إلى التجديد أسقط بعض شعره، الذي اتسم بعضه بالتعقيد؛ لذا حضر بعض شعره في كتب البلاغة والنقد بوصفه نماذج معيبة وضعيفة، وفي الوقت ذاته نجد نماذج شعرية كثيرة يستشهد بها بوصفها النماذج الفريدة للشعر العربي.
بالغ أبو تمام في البحث عن الجديد، ونجح كثيراً، وسقط في بعض الأحيان؛ لذا ظهر التفاوت في شعره بصورة كبيرة؛ فيحضر في القمة، ويحضر في القاع؛ فشبه بالصاعد إلى قمة الجبل، فإذا وصل كان في القمة، أما إذا سقط فيكون سقوطه مريراً؛ فشعره متفاوت بين القمة والقاع، كما أكد النقاد. ويؤكد هذا مقارنة البحتري بين شعره وشعر أبي تمام؛ فذهب إلى أن جيد شعر أبي تمام خير من جيد شعره، ورديء شعره خير من رديء شعر أبي تمام. وبهذا كانت المبالغة في البحث عن التجديد في الشعر ناراً أحرقت بعض شعر أبي تمام، لكن كثرة شعره الجيد حفظت له مكانته الشعرية في تاريخ الأدب العربي.
حاولتُ فيما سبق قراءة هذه الثنائية قراءة تتناسب مع المقام انطلاقًا من نماذج لشعراء قدماء؛ للفت الأنظار إلى الفكرة التي يتجاوز حضورها ميدان الأدب؛ فهي حاضرة في حياتنا؛ فالمال والمنصب والشهرة والحب والعمل، وغير ذلك، يمكن أن تكون نعماً للإنسان، إذا ما أحسن التعامل معها، ويمكن أن تكون سبباً لإحراقه والقضاء عليه: حسياً ومعنوياً. حفظ الله الجميع.
** **
أ.د. علي بن محمد الحمود - الأستاذ في كلية اللغة العربية- جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
... ... ...
للتواصل مع (باحثون)
bahithun@gmail.cm