حاوره - جابر محمد مدخلي:
عاشَ أديبنا المعاصر الأستاذ الدكتور محمد بن صالح الشنطي بجسده وقلبه في وطنهِ الذي ولِدَ فيهِ الأردن، وبروحهِ في الوطنِ الذي انتمتْ إليهِ جُذوره فلسطين العربية. حَمَلته الأقدارُ إلى حيثُ تتحولُ داخلهُ الأرضُ كعنقودٍ مثمرٍ يلمسهُ في كل اتجاهاتهِ، ويصافحهُ بدعواته ليطمئنَ عليهِ، ويربّتُ على كتفيهِ ويمضي متفائلًا له بحياةٍ مستقرةٍ. وُلِدَ فحمله العِلم منذ أن كانت أرضه مستقرة. نبت ذلك الطفل مع والديه راضعًا منهما فلسطينَ كشجرةٍ زيتونيةٍ يوقدُ من زيتونها النور.
* في البدء نحن سعداء أنكم ضيف على صحيفتنا الجزيرة وملحقها الثقافي، لنظفر معكم بهذا الحوار المثمر. ودعونا نبدأ معكم في حوارنا هذا من لحظة الآن هذه: هل يشعر أديبنا الأستاذ الدكتور محمد صالح الشنطي أنه قدم كل ما لديه ليغدو مؤثرًا بهذا القدر الملموس في أدبنا العربيّ الكبير؟
- بداية كل الشكر والتقدير لكم على هذه الحفاوة والترحاب، بصحيفة الجزيرة وملحقها الثقافي على وجه التحديد، على ما تقدمه من خدمة لأدبنا العربي، وأرجو أن تتقبلوا امتناني لكم على ما طوّقتم به عنقي بهذا الحوار الذي آمل أن أقدّم فيه ما يضيف ويفيد، ويضيء. وأعتز باستضافتكم...
لم أشعر يوما أنني قدّمت ما أستحق هذه الحفاوة منكم، وأعتقد أن أي إنسان يظن أنه قدم كلّ ما لديه ولو في آخر يوم من عمره مخطئ؛ لأن الإنسان مادام موجودا لا بد أن يكون قادرا على العطاء، وفي الوقت الذي يتوقف فيه عن العطاء يكون قد سلّم بالنهاية الحقيقيّة لوجوده، وأرجو أن أكون صادقا فيما أقول وليس من باب التواضع الزائف، إنني أتمنّى أن أكون قد قدّمت شيئا حقيقيّا لخدمة أدبنا العربي وأن تتاح لي فسحة من الوقت قبل أن يحين الأجل المحتوم لأقدّم ما يستحقّ هذا الفضل الذي غمرتموني به.
* بين أربع حيوات عاش الشنطي: حياة المولد والنشأة في المملكة الأردنية، وحياة التعلم والإثارة في القاهرة، وحياة العمل والإبداع في المملكة العربية السعودية، وحياة رابعة عبر حدود الذاكرة: حياة فلسطينة غير تامة المعالم؟ أي هذه الحيوات أعطت الشنطي النشاط الإبداعي تجاه كل هذا العطاء الكريم؟
- أشكرك على هذا التحقيب الجميل، فأنا قضيت الشطر الأول من حياتي في الأردن حينما كانت الضفة الغربية - في مدينة خليل الرحمن التي وعيت بها وجودي - جزءا من المملكة الأردنية الهاشمية، وقد تتلمذت في مدارسها حتى حصلت على الثانوية العامة، وكانت هذه الحقبة التاريخيّة تمثل المهاد الذي تربيت في أحضانه على يد أساتذة أكفاء ما زلت أدين لهم بالفضل، وبعد ذلك وفي عام 1964 التحقت بجامعة القاهرة، وكان قسم اللغة العربية فيها يضم أساتذة كبارا من تلامذة طه حسين وأمين الخولي وأحمد أمين والرعيل الأول من عمالقة الأدب ومنهم شوقي ضيف ويوسف خليف وشكري عيّاد وسهير القلماوي وعبد العزيز الأهواني وخليل يحيى نامي العالم الأثري الشهير الذي نشر نقوشا سامية واكتشف ألواحا مكتوبة بالخط المسماري في جنوب الجزيرة العربية، وكان يدرسنا مادة (تاريخ العرب قبل الإسلام) وحسين نصار وعبد المحسن طه بدر وعبد المنعم تليمة ونعمان القاضي وطه وادي وعبد الحميد يونس والتفتازاني الذي درسنا مادة (الفلسفة الإسلامية) وغيرهم من كبار الأساتذة الذين كانوا يمثّلون مدارس أدبية مختلفة، وكانت هذه الحقبة هي التي تأسست فيها مداركي وتفتّح فيها وعيي، حيث كانت القاهرة في الستينيات تحفل بحراك أدبي غير مسبوق؛ كنا ننتقل يوميا من محفل أدبي إلى آخر من نادي القصة إلى رابطة الأدب الحديث إلى ندوة الثلاثاء إلى مسرح الجيب، إلى محاضرة أو ندوة تعقد هنا أو هناك، وكان عصر المسرح الجاد الذي يقدم أعمالا مهمة لتوفيق الحكيم ونجيب سرور وعلي سالم ونعمان عاشور ورشاد رشدي وغيرهم، حيث كنا نشهد أعمالا مسرحية كبرى، ومنها مسرحية مأساة (الحلاج) لصلاح عبد الصبور في دار الأوبرا القديمة بالأزبكية، فضلا عن مسرح الجامعة الذي تفتحت فيه موهبة الممثل الأردني هشام يانس، وقد أتيحت لنا في القاهرة التعرف إلى أدباء كبار وأصدقاء أصبحوا مشهورين فيما بعد مثل جهاد الكبيسي رحمه الله والشاعر الأردني فارس سليمان (رحمه الله) ونزيه أبو نضال وعز الدين المناصرة وهو زميل دراسة في الثانوية العامة وكثيرين غيرهم، وأتيح لنا التعرف إلى شعراء وأدباء من مختلف أرجاء الوطن العربي، وكان عام 1968 حيث قدمت إلى المملكة العربية لأقضي فيها أطول فترة من حياتي فقد بقيت في تبوك أربع عشرة سنة مدرّسا في ثانويتها، ثم تفرّغت للدكتوراه لأعود ثانية إلى حائل فأقضي فيها أستاذا في كلية المعلمين اثنين وعشرين عام، ثم عدت إلى الأردن لأدرّس في جامعة جدارا ثماني سنوات ثم عدت أستاذا زائرا في الجامعة الإسلامية لأقضي فيها قرابة خمس سنوات ليكون مجموع ما قضيته في المملكة العربية السعودية واحدا وأربعين عاما هي زبدة العمر وخلاصته، وأنا مدين للملكة العربية السعودية بما أتاحته لي من فرصة العيش فيها والتعرف إلى مثقفيها وكتابها وشعرائها ونقادها والكتابة في صحفها ومجلاتها والمشاركة في نشاطاتها في النوادي الأدبية والجمعية العربية السعودية للثقافة والعلوم وجامعاتها ومؤسساتها الثقافية ومنابرها الأدبية، فمعظم ما أنتجته من أعمال متواضعة في مجال الأدب والنقد يعود إلى هذه الفترة التي تعتبر أخصب فترات حياتي، وقد نلت فيها من التكريم ما أعتزّ به فقد كرّمت من قبل وزير الثقافة والإعلام معالي الأستاذ إياد مدني ومن سعادة الشيخ عبد المقصود خوجة في إثنينيته الشهيرة، ومن الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون، ومن نادي حائل الأدبي وثلوثية الدكتور محمد السيف، وكلية المعلمين، وهذا مبعث اعتزازي؛ أما فلسطين التي ولدت فيها دون أن تتاح لي فرصة أن أرى مسقط رأسي فقد ظلّت تسكنني دائماً، أعيش همومها وأتوق إلى ربوعها، فالأردن وفلسطين توأمان يصعب الفصل بينهما، وأنا أعتز بالانتماء إليهما اعتزازي بالمملكة العربية السعودية التي رعتني ما يقرب من نصف قرن ثم بمصر التي أتاحت لي فرصة التعلم فيها وتشكل وعيي العلمي على يد أساتذتها.
* الشنطي معاصرًا لكل العصور بمؤلفاته، مقروءًا من كل الأجيال والمتعلمين والدارسين منذ عقود وهذه المؤلفات التي قدمتموها لمكتباتنا العربية هل حدث وأن تراجعتم أو تمنيتم إلغاء أو تأجيل أو حذف أحد مؤلفاتكم وكأنها لم تكن يومًا ما؟
- أشكرك جزيلا على هذا الثناء العطر الذي أعتز به، أصدقك القول، أتمنى لو تتاح لي الفرصة ويسعفني الوقت لأراجعها جميعا وأتلافى ما فيها من نقص، وما ينبغي أن أضيفه إليها من جديد، ففي الوقت الذي يرضى فيه الإنسان عمّا قدّم يحكم على نفسه بالفشل، ومن ظنّ أنه علم فقد جهل كما هو مأثور من جوامع الكلم، ليت العمر يسعفني لكي أتدارك ما فاتني وهو كثير.
* هل فكر أديبنا الشنطي يومًا ما أن يكتب سيرته الذاتية في قالب رواية؟
- أدوّن الآن تجربتي الذاتية في إطار التاريخي؛ ليس اهتماما بتفاصيلها بوصفها سيرة ذاتية؛ بل بوصفي شاهدا على حقبة من أخطر المراحل في تاريخنا المعاصر؛ أما تفاصيل حياتي الخاصة فهي ليست بدعا بين سير الآخرين؛ ولكن ثمة تباين في فهم وإدراك مغزى الواقع وهذا أمر طبيعي. فكّرت في كتابة سيرتي الذاتية في شكل روائي؛ ولكن وجدت أنني لم أكن صاحب مشروع روائي في الأصل؛ لذا رأيت أن تكون سيرتي الذاتية أقرب إلى الشهادة على حقبة تاريخية وليس استغراقا في تفاصيل لاتهم أحدا غيري.
* ما هي أحب العصور الأدبية إلى قلب الشنطي من خلال تمرسه فيها ومعايشته لها أثناء التأليف وبعده؟
- أعشق الأدب العربي في مختلف عصوره؛ وليس بوسع باحث مهما امتدّ به العمر؛ ولكن بحكم المعاصرة ظل اهتمامي منصبا على دراسة الأدب العربي الحديث في حدود المتاح وهو لا يشكل إلا نسبة ضئيلة جدا وحسبي أن أملك النية والرغبة.
* من وجهة نظركم أيهما أكثر تأثيرًا اليوم في مشاهدنا الثقافية العربية الرواية أم القصيدة؟
- باختصار شديد الشعر والرواية صنوان، لا أومن بمقولة (الرواية ديوان العرب) بديلا عن الشعر، فكلّ منهما فن قائم بذاته له ضروراته الإبداعية ودواعيه النفسية وملكته التي توجهه وتقتضيه.
* كيف يقرأ الشنطي حراك الرواية السعودية اليوم؟ وهل توقعتم أن يحدث هذا التطور الكبير والنقلة السردية في المشهد الثقافي السعودي؟
- الرواية السعودية تشهد طفرة إبداعية هائلة في المشهد الأدبي العربي المعاصر، وتسجّل رقما قياسيا غير مسبوق كما وكيفا، والمطّلع على النشرات والكتب الببليوجرافية التي تصدر عن المختصين والمهتمين وفي مقدمتهم الأديب الأريب خالد اليوسف، ومعه أخي الدكتور حسن حجاب الحازمي الذي يشاركه - على نحو ما - في بعض الأحيان في هذه المهمة يدرك حجم القفزة التي حققتها الرواية السعودية، حيث وصلت إلى مرتبة متقدّمة عربيا وعالميا، وترجم بعضها إلى لغات حية: الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية وغيرها، ونالت جوائز رفيعة المستوى.
لقد توقعت ذلك بالفعل حينما شهدت أعلاما كبارا: روائيين وشعراء وأكاديميين ينتجون أعمالا روائية متميزة في عقد التسعينيات وما بعده. وختاما لكم خالص شكري وتقديري.
* في خاتمة حوارنا الصحفي الماتع مع شخصيتكم الهامة، والتي أضاءت لنا أزمنة كبرى، وأمدتنا بمدارس أدبية متعددة ومتنوعة.. لا يسعنا إلا أن نشكركم، ونترك لكم ختم لقاءنا هذا بكلمة لصحيفتنا الجزيرة وملحقها الثقافي؟
- كل التقدير والامتنان للجزيرة الثقافية التي تعدّ منبرا لأدبنا العربي وثقافتنا، تتبوأ مكانة رفيعة في نفوسنا لما تنشره من مقالات ومراجعات ونصوص وتقدم لنا منجزات سخية في الفكر والثقافة والأدب، من خلالها تعرّفنا على قامات فارهة وكوكبة من النقاد والكتاب والمفكرين، واحة غنّاء وناد مكتمل الأركان تجتمع في رحابه القرائح والعقول ويحتفل به بالكلمة الصادقة والإبداع المتميّز. بوركت جهودكم. ودمتم ودامت الثقافية متألقة مشرقة، منارة شامخة للكلمة المبدعة والفكر الثاقب.