الجزيرة الثقافية - إعداد/ جابر محمد مدخلي:
في مرحلة مبكرة جدًّا من عمره كتب شعرًا ناضجًا، مستوفي الأركان، والموسيقى، والتأثير، والقافية. يمكننا القول إنه للتو تخرج من الصف الخامس الابتدائي حين ولِد الشاعر بداخله. ومضت الأمنيات تؤثثه، تحمله إلى مرفأ الأحلام الأولى، أن يرى نتاجه مطبوعًا مثله مثل الذين طبعوا في عدن. عقود مضت على تاريخ هذه الحكاية، ولم تندثر من نفسه، بل ظل يُدخل مفتاح ذاكرته في كل مناسبة؛ ليديره من أجل إخراج الإبداع، وتدوين التاريخ الأدبي. إنه إبراهيم مفتاح، أديب معاصر، وأحد شعراء الوطن، وحد جنوبي، ومشهد أدبي مكتمل في قلب أديب واحد. بين القصيدة والبحر نمت حكاياته الغزلية، ومشاعره البحرية. الموجة في قصائده أنثى، والمرفأ صديق أبدي. سيرة طويلة؛ والحديث عنها لا تفيه المجلدات. ولأنه بحر، عميق، وطيب، وكريم، لا يُغرق أحدًا إلا بالمحبة والتواضع والسلام، ولأنه رمز من رموز الوطن كان للجزيرة الثقافية طموح الاحتفاء به احتفاءً، هو به وله جدير. ولنغوص في قلبه وتاريخ وعالم هذا الضيف كان لنا معه هذا الحوار:
* في البدء نحييكم، وندعو لكم الله بدوام الصحة ، ونرحب بكم في صحيفتنا (الجزيرة) وملحقها الثقافي بهذا الحوار الطامح لنيل ولو قسط من إبداعكم الجم فحياكم الله..
أبادلكم التحية ، وأسأل الله أن يستجيب لرجائكم ، ويسبغ علينا - جميعًا - ثوب الصحة والعافية ، وأشكركم على ترحيبكم بي في صحيفة ( الجزيرة ) ومجلتها الثقافية ، وآمل أن أوفق في الحوار معكم بما يليق بهذا الملحق ، وبما يليق
بثقتكم بي وأحييكم بمثل تحيتكم ، وترحابكم بي.
أعترف بأني تهت في نتاجكم ، وحرت كيف أدير حوارًا ناضجًا أمام رمز أدبي ، ومشهد مكتمل. ولعلي أبدأ من حيث المكان .. من تلك البيئة التي انبعث منها اسم أدبيّ، ستظل بصمته في مشهدنا الثقافي خالدة .. فكيف استطاعت بدايات أديبنا مفتاح أن تتجاوز الصعوبات وتتخلص من آكام البحر ليجد نفسه بين عمالقة مجايليه؟
دعني أبدأ إجابتي عن سؤالكم من منتصفه. يا سيدي الكريم، بداياتي تعود إلى طفولتي عندما أراد أهلي أن يصنعوا مني رجلًا مبكرًا، ووضعوني في ( دكان ) بعد أن استطعت أن أجيد القراءة والكتابة - إلى حدٍ ما - عن طريق ( الكتّاب ) أو ما يسمونه ( المعلامة )، وحرّموا عليّ - تقريبًا - اللعب مع أقراني من الأطفال. وبطريقةٍ عفويةٍ كنتُ أعوّض حرمانيّ الطفوليّ بالقراءة في بعض السير التاريخية التي كانت ترسل إليّ من بعض أقاربي في ( جدة ). وبطريق المصادفة حصلت من أحد أصدقائي على كتاب ( ألف ليلة وليلة ) بمجلداته الأربعة.. هذه الكتب وغيرها أثناء عملي في الدكان فتحت شهيتي للقراءة من حيث لا أشعر ووجدتني محبًّا لما فيها من شعر لدرجة أني كنت أحس بالخلل الوزني في أي نص أقرؤه - عن طريق حاستي السمعية - وأقوم بإصلاح النشاز دون أن أعرف أو أسمع بما يسمى ( علم العروض )، ولم تقتصر قراءاتي على الشعر فقط؛ بل تجاوزت ذلك إلى قراءة ( المنفلوطي ) في كتبيه ( النظرات ) و( ماجدولين ) و( روايات الإسلام ) لجورجي زيدان ، و( الماضي لا يعود ) لمحمد عبد الحليم عبدالله .
كانت هذه بدايات انطلاقاتي القرائية ، ولا أنسى معلمي الفلسطيني (بكر الهسي) في الصفين الخامس والسادس بعد أن فتحت مدرسة فرسان الابتدائية .. هذا المعلّم كان له فضل كبير في تنمية موهبة الشعر عندي. وكانت الخطوة الثانية عندما كنت في مدينة جازان للدراسة في معهد المعلمين الابتدائي كآخر شهادة دراسية أحملها - حتى الآن - وهناك تعرفتُ على مجموعة من الزملاء كان من بينهم الدكتور هاشم عبده هاشم الذي كان يدرس المرحلة المتوسطة، وكان لكتاباتي المتباعدة في بعض الصحف دورٌ كبير في التسرب إلى دنيا الثقافة والأدب والتعرف على المشتغلين بها .
* أديبنا مفتاح افتتح مسيرته القلمية والأدبية بالشعر ، وكأنما ذلك لم يُشبع نهمه ؛ فاتجه للبحث والصحافة ، ثم التراث ، فالتاريخ ، فالنقد ، فالسرد الروائي .. كيف حدث كل هذا الجمع والإبداع من روح وقلب أديبٍ واحد؟
السؤال متخم بأكثر من عنصر ، ولكني سأحاول الاختصار ، فبالنسبة للشعر - إضافة إلى إجابتي على السؤال السابق - لا أشك أن للوراثة نصيبًا في ( عدواي) به فأنا من أسرة شاعرة: أبي .. أعمامي .. بعض أقاربي، وإن كان مجالهم الشعر الشعبي. أيضًا ( الموهبة ) لها دور ، وإن كانت في رأيي لا تنفصل عن الوراثة ، ثم القراءة ، والاطلاع. أما بالنسبة للنقد فمحاولاتي فيه لا تذكر. وإذا ذكرت الصحافة أذكر معها أخي وصديقي الأستاذ علوي طه الصافي رئيس تحرير مجلة ( الفيصل ) سابقًا، الذي أغراني بالعمل معه في المجلة . وهنا أتيحت لي الفرصة لإجراء لقاءات صحفية مع بعض ذوي القامات العلمية والفكرية والأدبية، كالأستاذ الشاعر الناقد محمد حسن عواد ، والدكتور محمد بن سعد بن حسين ، والشاعر اليمني عبد العزيز نصر ، ومع كبير النقاد العرب عبد القادر القط ، وفي مجال السياسة والأدب الأستاذ أحمد محمد الشامي وزير خارجية ( المملكة المتوكلية اليمنية ) وعندما زرت اليمن كتبت استطلاعًا عن مدينة ( صنعاء )، وأجريت لقاء مع وزير الإعلام اليمني سابقًا حسن أحمد اللوزي ، ولقاء آخر مع شاعر اليمن الكبير عبدالله البردوني - رحمه الله - وقد نشرت جميع هذه الأعمال في أعداد مجلة الفيصل ، وعندما أصبت بحالة مرضية خطيرة تركت العمل الصحفي ، وعدت إلى سلك التعليم في جزيرتي (فرسان )، وكان لي خير في ذلك لأتفرغ لشيء من تاريخها ، وموروثها ، وأساطيرها كمواد خصبة لم يطرق بابها أحد ، ومن هذه الكنوز المجهولة وصل عدد مؤلفاتي ( 14 ) مؤلفًا في الشعر ، والأدب ، والموروث ، والرواية ، ولا أريد أن أفصح عن ولادات جديدة إن كان في العمر بقية.
* تعايش ، وسافر ، وارتحل أديبنا مفتاح مع أسماء كبيرة ، وكثيرة ، ولكن الشاعر حسن القاضي - عافاه الله - ما زال حاضرًا في نفس المتلقي - رغم اعتزاله - بسبب المرض. فهل فقد المشهد الثقافي السعودي شاعرًا بحجم القاضي؟
ستكون إجابتي عن الزميل الشاعر الأستاذ حسن القاضي مختصرة في الآتي:- من المؤسف جدًّا أن الجيل الجديد من المشتغلين بالأدب - بكل شرائحه - لا يعرفون عنه شيئًا؛ لأنهم لم يعاصروه، وأنه سبق زمنهم ، وأن زملاءه تملأ نفوسهم الحسرة لما حصل له من ظرف صحي أبعده عن الساحة ، ولكن هذا قضاء الله ، ولا راد لقضائه وقدره. فالزميل الشاعر الأستاذ حسن القاضي ثروة وطنية، فقده الوطن ، وليس المشهد الثقافي فقط .. أسأل الله له العافية.
* عاش أديبنا مفتاح والبحر في علاقة وطيدة لعقود خلت، أعطاه جل شعره ، وترحاله ، ووصفه ، وغرامه ، فهل أعطاه البحر إكسير هذا الإبداع بأكمله أم إنه سلب منه بمقدار ما أعطاه؟
أنا والبحر ( توأمان ) رغم أنه يكبرني بمليارات السنوات ، ولعل هذا التراكم التاريخي والزمني الذي لم يبح البحر بأسراره ومكنوناته قد منحني قبسًا ضئيلًا مما يكتنزه إلا أنه رغم ضآلته أشعل في داخلي جذوة يوخزني أوارها بين الحين والآخر لأجده في لظى شوق أم ، أو زوجة ، أو حبيبة يترنمن ساعة الضحى في مناجاة وَلَه لغائبهن:
درهت باثنين
قمر ونجمين
والي بيادون
والي بسيدي
درهت باثنين
النون والعين
والي بيادوه
والي بسيدي
درهت باثنين
واحد مرايه
وواحد كحل عين
البحر حاكم
لا له مراقي
ولا ملازم
أو لأجده في لوعة مشتاقة لغائبها:
ليلي على المشراف ومطالعه لك
حتى طلوع اللولين والصباح بان
كل السواعي روحن وانت مالك
تشتاق لك نخله وفيه وجدران
هل الهلال واحنا انترجى هلالك
غلق رجب واليوم في نص شعبان
يكفي غياب من يوم ماغاب فالك
لا الظهر لي يحلى ولا الليل لي زان
شوق المرايا غاب عنه خيالك
ليت المرايا تحتفظ بالذي كان
وكثيرة هي الآهات المحترقة التي لا يتسع المجال لذكرها ، التي لا تقتصر اشتعالاتها فيما كتبته - أنا - عنه ، ولكنّ آخرين من أبناء فرسان له في حياتهم أثر كبير كما هو حال هذا الشاعر:
حبيناك ومن أجلك تغنينا
وعشنا داخلك نبحث عن المحار
اسأل عن مراكبنا وماضينا
تلقى فوق موجك بصمة البحار
من فوت المدى عمقك ينادينا
غدار يا بحر في قسوتك غدار
نعشق ساحلك رغم الذي فينا
وكم ليله على شانك فرقنا الدار
ارتحنا كثير منك وعانينا
ونتناسى عذابك ساعة الإبحار
وإن عدنا من الفرحة على المينا
نتلاقى لقا عمره ابد ما صار
أما أنا فأصور هذا المشهد في حالة سفر إلى البحر:
يا سادتي بعض اشواقي مسافرة
وبعضها فوق خد الصبح ينحدر
حيث المساءات تشكو جرح غربتها
والليل من حرقة الآهات ينصهر
أم تودع طفليها وغانية
حسناء لم يكتمل في عرسها قمر
حين ارتدت خجل العينين نظرتها
تمرد الكحل والأهداب والحور
لكنها والوداع المر مفترس
زهو المفاتن واللفتات تنكسر
تلفتت في الزوايا ربما نسيت
بعض الثواني التي لم ينسها العمر
وربما من وراء الباب قادمة
خطواته وجحيم الشوق يستعر
حين اختفت في انعطاف الدرب لفتته
وكاد من شوقه بالدرب يعتمر
الحديث عن البحر طويل. وخلاصة القول: إن القارئ لشعري وكتاباتي الأدبية ورواياتي سيجد ذلك واضحًا، وسيجد أن فرسان هي المحبرة التي غمست في حبرها ريشة قلمي.
* آخر إصداراتكم كانت رواية بعنوان (أم الصبيان)، وقبلها رواية (الصنجار). وبلغني أنكم تعكفون حاليًا على إصدار عمل روائي جديد، فهل اكتشف أديبنا مفتاح في الرواية سرًّا لم يكتشفه إلا مؤخرًا؟
فرسان بحكم موقعها في داخل البحر ، وبحكم ارتباط إنسانها به أجد - حسب اعتقادي - أنها غنية بأشياء لم تكن عند الآخرين ، في طبيعة أرضها ، في فنونها الشعبية ، في عادات أهلها وتقاليدهم، وحتى في فنهم المعماري، وإلى جانب ذلك
- كله - موروثها الأسطوري الذي اتكأت عليه ، وكان حلمًا يراودني منذ زمن بعيد إلا أني تريثت حتى وجدت أن لدي القدرة على امتطاء الحبكة الروائية في روايتي (الصنجار) والثانية أم الصبيان التي جاءت في سؤالك، وأيضًا في روايتي الثالثة التي سأتريث في إصدارها.
* «السنوسي شاعر مطبوع» هكذا وصفتموه في أحد الحوارات السابقة.. إن وصفًا كهذا - برأيي - يعدّ أعظم إيجاز وصفي من شاعر عن شاعر؛ فهل كان أثره على نفوس مجايليه كبيرًا إلى حد هذا الوصف الكريم، الموجز الشامل منكم؟
السنوسي - رحمه الله - لم يكن شاعرًا مطبوعًا فقط، بل هو شاعر (إنسان)، وهو - بالنسبة لي - منذ طفولتي العمرية والشعرية الذي تمنيت أن أكون مثله. السنوسي بالنسبة لي (عشق وافتتان) ومهما قلت عنه لا يفيه حقه.
* لو كانت المساحة بحجم كتاب لغدا حوارنا - هذا - بعدد صفحاته ، ولكنه الختام الذي أتركه لكم بكلمة أخيرة منكم لقرائكم ، وقراء الجزيرة الثقافية.
كلمتي تهنئة ممزوجة بالشكر لجريدة الجزيرة - بصفة عامة - ولمجلتها الثقافية - بصفة خاصة -. وعندما قلت (تهنئة) فأنا أقصد بها على صمود هذه المطبوعة في وجه الصحافة الإلكترونية التي أجبرت العديد من المطبوعات على إغلاق مكاتبها وقذفها لتاريخها الطويل في سلة التنافس الإلكتروني - إن جازت العبارة -. وثانيًا شكري لكم ولكل أعضاء أسرة الجزيرة على إتاحتهم الفرصة لثرثراتي التي آمل أن تكون في مستوى حسن الظن بي.. وفق الله الجميع.