جاءتني ردود فعل إيجابية كثيرة ومرئيات قيمة من العديد من القراء والقارئات الكرام حول الموضوع الذي نشـر بجريدة الجزيرة بعددها 17487 بتاريخ 24 محرم 1442هـ، الموافق 11 سبتمبر 2020م، بعنوان «جائحة كورونا؛ أصداء وتأثيرات وتغير متوقع في نمط الحياة». أشكر الذين تفاعلوا مع الموضوع، كما أدين لهم بملاحظاتهم التي أبدوها، وكان من أهمها أن الموضع لم يشمل مقترحات لبعض الحلول وأهم الأولويات التي يفترض استحضارها للتركيز عليها بعد زوال الجائحة قريباً بحول الله، من أجل معالجة آثارها. ومن الطريف أنه وصلني لوم أو عتب من البعض، وهم قلة، يتساءلون باستغراب؛ ما الذي دفعني للكتابة في غير مجال اختصاصي؟ ولعلي أذكرهم أن من عركته الحياة، وخاض ميادين العمل، وعايش خبرات وتجارب ثرية، حري به من وجهة نظري ألّا يبخل بمشاركة الجميع بما هو نافع من خبراته وآرائه، ومن ذلك أن يدلي بمرئياته حول موضوعات الشأن العام للحياة عسى أن يستفاد منها.
يدرك الكثير أن أهم التحديات والمخاطر التي تواجه اقتصادنا هو اعتمادنا بعد الله على مصدر رئيسي واحد للدخل فيما مضى وحتى الآن، وهو كما يعرف الجميع النفط. ومع إدراك مخاطر هذا الأمر منذ أكثر من خمسة عقود، وبالرغم من الجهود التي بذلت فيما مضى لمعالجة هذا الموضوع بتنويع مصادر الدخل من خلال برامج الخطط الخمسية التي أعدت خلال العقود الماضية، ثم توجت برؤية المملكة 2030 التي تميزت بشموليتها وطموحها ووضوح أهدافها وبرامجها التنفيذية المتعددة التي بدأ العمل عليها، فإن ما تحقق حتى الآن في مجال تنويع مصادر الدخل لا يزال برأيي دون مستوى الطموح والمبتغى. ومن المؤكد أن جائحة كورونا التي تسببت في تعطيل عجلة الاقتصاد على المستوى العالمي، سوف تؤثر بشدة على مسيرة التنمية في بلادنا، ولعل هذا العارض غير المتوقع يكون دافعاً لمراجعة وإعادة ترتيب الأولويات، وبرمجة تنفيذها بما يتناسب مع الإمكانات المتاحة، وبما يعالج أهم المشاكل والتحديات التي يتوقع أن تواجه مسيرة حياتنا، والتي من أهمها توفير فرص العمل لضمان حياة كريمة للجميع. ويوجد العديد من المجالات المهمة جداً والمؤثرة على مسيرة التنمية، إذا أمكن التركيز عليها فستسهم بمشيئة الله بفاعلية في تنويع مصادر الدخل، وتخلق الفرص الوظيفية للأجيال القادمة، وتفتح الآفاق أمام قطاع الأعمال بمنشآته الكبيرة والصغيرة والمتوسطة، ومن أهمهما من وجهة نظري ما يلي:
تأهيل الأجيال القادمة:
في بداية حياتي ومع بدء إدراكي أوائل ثمانينات القرن الهجري الرابع عشر لم يكن لدينا قوى عاملة أجنبية باستثناء مجالات الطب والتعليم وبعض الأعمال المكتبية التي تحتاج إلى تأهيل وخبرة متخصصة مثل البنوك، وكانت جميع الأعمال السائدة بالمجتمع آنذاك بمختلف أنواعها يقوم بها أبناء الوطن، ومع الوقت وتوسع الأعمال وتطورها نتيجة لتحسن أوضاع الدولة المالية بدأ قدوم اليد العاملة من خارج البلاد وصارت تشارك بالأعمال الشاقة مثل البناء، وأعمال المزارع، وقيادة الشاحنات وسيارات الأجرة، والرعي، وواصلت زحفها على بقية الحرف والأعمال إلى أن حلت محل اليد العاملة الوطنية بكافة الميادين سوى مجال الوظائف الحكومية وفي بعض الشركات الكبرى، التي أصبحت الهدف والميدان لغالبية أبناء وبنات الوطن. ومع تحسن مستوى المعيشة في بلادنا قبل قرابة أربعين سنة بدأ يظهر جيل جديد مترف توفرت له سبل التعليم ثم التوظيف مباشرة بعد الحصول على أي مؤهل، وفي أي مجال. وما لبثنا كثيراً حتى أصبحت شريحة كبيرة من أبناء المجتمع من هذا النوع، وتزايد الاعتماد على اليد العاملة من القادمين من خارج البلاد في كافة ميادين الخدمات، والصناعة والتجارة، إلى أن طال ذلك الأعمال المنزلية، وتراجع دور الأم في تدبير أعمال المنزل وتربية الأبناء معتمدة على الخادمات، التي أصبح لا يخلو منها منزل إلا ما ندر. وقبل حوالي عشر سنوات تجاوز عدد الوافدين وعوائلهم عشرة ملايين زادت تحويلاتهم السنوية من الأموال من خلال القنوات الرسمية في بعض السنوات على 130 ملياراً، وهذا استنزاف هائل لثروة الوطن يخسرها اقتصادنا نتيجة عزوف الشباب فيما مضى عن كثير من أعمال القطاع الخاص والخدمات التي صارت بأيدي الوافدين. أما في القطاع الحكومي العام، فقد أجاد أبناء وبنات الوطن دورهم وفي كافة الميادين، وتطور عمل الأجهزة الحكومية وأداؤها بصورة أصبح معها ينافس أمثاله في كثير من الدول المتقدمة، كذلك الحال في شركات القطاع الخاص الكبرى مثل البنوك، وشركة أرامكو، وشركة الكهرباء، وشركة سابك، وشركات الاتصالات، وشركات كبرى في قطاعات أخرى مثل المقاولات، والزراعة، والتعدين، فقد تطورت أعمالها على أيدي الكفاءات والخبرات المتميزة المخلصة من أبناء وبنات الوطن.
ومع اكتفاء التوظيف في قطاعات الحكومة وكبار الشركات، ومع نشوء تضخم وترهل وظيفي في بعض الجهات المرغوبة في التوظيف أصبح موضوع البطالة من التحديات الوطنية، وليس من خيار سوى إيجاد فرص العمل لتوظيف القوى العاملة الوطنية من الجنسين في القطاعين الحكومي والخاص، التي أصبحت مؤسسات التعليم تدفع بها إلى سوق العمل، لكن وللأسف أن الكثير من مخرجات التعليم لم تكن تتوافق مع احتياجات السوق. مع ذلك فإن معظم الجامعات، التي من وجهة نظري زاد عددها أكثر مما ينبغي على حساب معاهد التعليم الفني والتدريب المهني وكليات التعليم التقني، لا تزال تضخ أعداداً ضخمة من الخريجين المتخصصين بدراسات نظرية لا تتوافق مع متطلبات السوق، ويصعب على الخريجين وجود وظائف تلبي تطلعاتهم، ولهذا فمن الضروري جداً إعادة النظر عاجلاً بمخرجات التعليم بمراجعة عملية جادة، وليس كما كان يطرح نظرياً خلال العقود الثلاثة الماضية، والذي للأسف لم ينفذ عملياً كما ينبغي، ويجب أن تكون البداية بمراجعة محتويات المناهج وتقويمها، ووضع ضوابط تضمن حسن اختيار المعلمين والمعلمات والمدربين على الأعمال المهنية والتقنية، وأساتذة الجامعات، وتدريبهم وتأهيلهم للعمل باحترافية جيدة وبمهنية عالية، والاستفادة من الخبرات المحلية المتميزة، وتوفير الحوافز المناسبة، ومتطلبات الأمان الوظيفي، مع ترسيخ القناعة عند كل منهم بأهمية رسالة التعليم التي يحملها وعظيم أثرها وتأثيرها على النشء والأجيال القادمة. كما يجب إعادة دراسة جدوى كثرة الجامعات والتخصصات فيها، ومدى كفاية معاهد التدريب التقني والتعليم الفني، وتصميم مناهج التعليم بالجامعات ومعاهد التدريب بما يضمن إكساب الخريجين والخريجات المهارات اللازمة وتنمية قدراتهم المطلوبة لتوليهم أكبر قدر ممكن من الوظائف والأعمال والخدمات في البلاد بكافة المجالات.
زيادة الإنفاق على البحث العلمي:
لا يخفى على المختصين والمؤثرين على القرار أهمية الصرف السخي على البحث العلمي كمجال من مجالات الاستثمار لدوره في تنمية الإبداع والابتكار والتطوير، ولمعالجة المشاكل المحلية في كافة الميادين. ومن الملاحظ أن حكومتنا لم تغفل هذا الجانب، وأنشأت كياناً لذلك عام 1977م بمسمى المركز الوطني للعلوم والتكنولوجيا، وهي اليوم مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية. وخلال السنوات العشر الماضية أنشئت مراكز جديدة للبحوث والدراسات مثل جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، ومدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة، ومركز الملك عبدالله للدراسات البترولية، كما جرى تطوير مراكز البحوث والدراسات في بعض الجامعات والشركات الكبرى. لكن من وجهة نظري أن أيَّاً من تلك المراكز لم يحقق المأمول بالمستوى المتوقع في مجال البحث العالمي والتطوير والدراسات التي تحتاجها بلادنا، وربما من أهم الأسباب تدني وتواضع الإنفاق الحكومي على أنشطة البحث العلمي قياساً على ما تنفقه كثير من الدول الصناعية المتطورة، وضعف التنسيق والتكامل بين مراكز البحوث فيما بينها، وضعف الالتزام بالخطة الوطنية للعلوم والتقنية التي أقرها مجلس الوزراء قبل أكثر من عشرين سنة، وكذلك ضعف القناعة لدى بعض متخذي القرار من المسؤولين بأهمية البحث والتطوير وتطبيق نتائجها، وضعف الروابط بين مراكز البحث والقطاعات التي تستفيد من نتائجها، خاصة القطاع الصناعي، والقطاع الزراعي، وقطاعات الخدمات، والتعليم وغيرها.
والخطوة الأولى برأيي لتفعيل الدور المهم جداً والرائد للبحث العلمي هي السعي أولاً لمعالجة العوائق التي أوردت أهمها أعلاه أمام مسيرة البحث، وبعد ذلك التدرج في زيادة الإنفاق عليه باستقطاع نسبة محددة من دخل البلاد على غرار ما يجري في كثير من الدول التي اعتمدت على البحث والتطوير في بناء اقتصادها وتطوير مجتمعها، ومنظومة الحياة فيها. ومن المجالات التي لم تعط الاهتمام الكافي فيما مضى أبحاث الدراسات الاجتماعية على الرغم من أهميتها القصوى، فنحن بأمس الحاجة إلى إجراء مكثف لهذه الدراسات من أجل تأصيل بعض المفاهيم التي تنقص أبناء المجتمع مثل حب العمل، وإتقان الأداء، والمحافظة على الهوية والانتماء، والمحافظة على الوقت ودقة المواعيد، وسعة الأفق، وتقبل الرأي الآخر، وتفادي الإسراف بالاستهلاك، وتجنب التباهي والجري وراء المظاهر، وتأصيل الحاجة إلى الادخار، وترغيب النشء بالأعمال المهنية والأعمال الحرفية، وتجنب السلوكيات المشينة، واحترام الآخرين، والحرص على الالتزام بالأنظمة والتشريعات، وتوجيه وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي لما يخدم المجتمع ويعزز القيم والأخلاق، وغير ذلك.
استقطاب العقول والمفكرين ومنح أصحابها الجنسية:
ربما كانت بيئة البحث العلمي والإبداع والابتكار طاردة لأصحاب العقول والمبدعين في كثير من الدول الإسلامية والعربية، وفي المقابل يجد هؤلاء ترحيباً منقطع النظير في الدول التي تقدر قيمة العقل البشري المبدع المتميز، وتتنافس على استقطابهم الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا وأستراليا، وكثير من الدول الأوروبية، وكذلك اليابان وكوريا والصين، وتمنحهم جنسيتها، إضافة إلى ما يجدوه من المزايا المشجعة، ومن ذلك حفظ حقوقهم المعنوية والمادية ضمن حماية حقوق الملكية الفكرية في بيئة العمل. وهذا ما دفع كثيراً من المتميزين والمبدعين إلى الهجرة إلى تلك الدول حيث يجدون البيئة المناسبة الجاذبة لهم مادياً ومعنوياً. ومن وجهة نظري أن استقطاب العقول والحرص على رعايتها وتوطينها من الأولويات التي يجب التركيز عليها، ابتداءً بالعقول الوطنية التي لا تقل بفضل الله عن مستويات ذكاء وقدرات الآخرين. والسؤال المهم هل لقي أبناء البلد من أصحاب العقول المتميزة والمبدعين الاهتمام الكافي؟ والإجابة من وجهة نظري نعم ولا، والسؤال الأهم على من تقع المسؤولية؟ هذا ما يجب استقصاؤه لمعرفة الأسباب ومعالجة الوضع.. يلي ذلك استقطاب العقول المتميزة والمبدعين من كافة دول العالم وتوطينها (بشروط وضوابط) وبعد إيجاد وضمان بيئة عمل جاذبة لهم في مجالات البحث والتطوير والإبداع والابتكار، وقد كتب حول هذا الموضوع إلى المسؤولين عام 1992م مع بداية التحاقي بمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية الذي تزامن مع تفكك الاتحاد السوفيتي حينها، وكان بالإمكان استقطاب كثير من المسلمين من أصحاب العقول المتميزة المؤهلين الذين كان معظمهم من نصيب الدول الغربية بعد ذلك، ولم يتخذ أي إجراء جاد في بلادنا منذ ذلك الوقت سوى من خلال إنشاء جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية قبل أكثر من عشر سنوات، لكن ظلت مساهمتها في هذا المجال محدودة كونها تؤهل المتميزين، ومعظمهم يبحثون عن فرص عمل أفضل قد يجدونها في كثير من مراكز البحث والتطوير بالدول المتطورة.
فتح المجال أمام الكفاءات
والخبرات المحلية:
طيلة عملي بالحكومة الذي قارب أربعين سنة، لاحظت الاعتماد بصورة كبيرة إن لم تكن كاملة على الخبراء الأجانب وبيوت الخبرة الغربية، وبالمقابل لم تحظ الكفاءات والخبرات المحلية بدعم كافٍ، ولم تتح لهم الفرصة المناسبة ليفيدوا من خبراتهم الجيدة، لا سيما أن كثيراً منهم تخرجوا من جامعات عالمية مرموقة، وبعضهم اكتسب خبرة تفوق ما لدى الكثير من الخبراء الأجانب، الذين يتقاضون مبالغ طائلة مقابل تقديم استشارات بعضها ليست ذات عمق، ويمكن لأبناء البلد تقديم أفضل منها إذا أتيحت لهم الفرصة. وقد عايشت تجارب من هذا النوع في مسيرة عملي، وجربت الفئتين، فوجدت الخبرات الوطنية أقدر على العطاء ومعالجة المشاكل لفهمهم جوانب كثيرة من الظروف والمؤثرات المحلية مقارنة بالخبير الأجنبي، مع فارق كبير بالتكاليف التي تدفع للخبراء وبيوت الخبرة الأجنبية، إضافة إلى أهمية عامل تراكم وتوطين الخبرة مع أبناء البلد. من هذا المنطلق، ومن وجهة نظري أنه آن الأوان لإعطاء المجال للخبراء والكفاءات الوطنية للمشاركة الفاعلة في إجراء الدراسات الاستشارية وتقديم خبراتهم والاستفادة منها، لكن بنفس الوقت لا بد من منحهم الثقة من جانب، ومن جانب آخر دفع الأتعاب المناسبة العادلة لهم مقابل جهودهم، وهم بحسب تجربتي خير من يسهم بتقديم المشورة ومعرفة الحلول الناجعة للمشاكل المحلية، سواء كانت تقنية وفنية، أو مالية وإدارية، أو في مجال الدراسات الاجتماعية والإنسانية، فلنثق بأبناء بلدنا ونعطيهم الفرصة للمساهمة في التطوير والبناء، وربما أصبحت بيوت الخبرة المحلية بقيادة ومشاركة الكفاءات والخبرات الوطنية أحد مصادر الدخل للبلاد، خاصة إذا اكتسبت الخبرة الكافية للمنافسة في تقديم خبراتها خارج البلاد.
التركيز على التعدين:
كما ورد سابقاً أن بلادنا الغالية اعتمدت اعتماداً رئيسياً على دخل النفط منذ اكتشافه قبل ثمانين سنة حتى هذا الوقت بالرغم من السعي الحثيث خلال السنوات الخمسين الماضية لتنويع مصادر الدخل، وتقليل الاعتماد شبة الكامل على النفط. وإلى وقت قريب لم يتخذ خطوات عملية جادة لتحقيق هذا الهدف سوى من خلال التوسع في بعض الصناعات، خاصة الصناعات البتروكيميائية، لكن دخلها يبقى محدوداً نسبياً مقارنة بدخل بيع النفط، مما أجبر الحكومة في الآونة الأخيرة على التوسع في فرض ضرائب (لعلها تكون مؤقتة) لأول مرة في تاريخها، وزيادة في رسوم بعض الخدمات من أجل مساندة دخل النفط لتغطية العجز المالي، خاصة عندما تتراجع أسعار النفط بشدة كما حصل مع بداية جائحة كورونا خلال الربع الأول من عام 2020م. ونظراً لأن بلادنا الغالية تتمتع بمساحات شاسعة وتضاريس متنوعة، فمن المرجح أنها تحتوي على مخزونات كبيرة من مختلف المعادن والثروات الطبيعية التي يمكن استخراجها لسد الحاجة المحلية بدلاً من الاستيراد، وتصدير الفائض إلى الأسواق العالمية لتعزيز وتنويع الدخل. ومن وجهة نظري أن التركيز على التعدين هو الخيار والمجال الأنسب مستقبلاً، ومن المؤشرات المشجعة على المضي بهذا المسار النتائج التي تحققت خلال الأعوام القليلة الماضية في أعمال استخراج الفوسفات من موقع حزم الجلاميد قرب الحدود الشمالية، ولعل مدينة وعد الشمال، والمدينة الاقتصادية في منطقة جازان أول الخطوات الموفقة للمضي قدماً في أعمال التعدين. وفي هذا الشأن نبارك الجهود الحثيثة التي تقودها حالياً الجهات المختصة وفي مقدمتها وزارة الصناعة والثروة المعدنية، مع الإدراك أن النجاح في هذا المسار مرهون بمواصلة العمل بعزيمة وإصرار وتوفير المتطلبات من أجل تحقيق الهدف ليكون التعدين أحد أهم مصادر الدخل بمشيئة الله.
التركيز على التصنيع:
قطاع الصناعة من أهم الأنشطة التي تعتمد عليها كثير من الدول، فهو قطاع حيوي مهم وسيظل مهماً ما بقيت الحياة. ومع التنافس المحموم عالمياً على التصنيع والتصدير، فلا تزال مدفوعات الصناعات المستوردة من بلدان صناعية إلى بلادنا بمئات المليارات من الريالات، فلماذا لا توطن الصناعات وتوفر لها الحماية المناسبة لسد جزء من احتياجات أسواقنا، ثم التصدير في مرحلة قادمة، لا سيما أن التصنيع يشكل ثنائياً متكاملاً مع التعدين. وفي الوقت الذي نقدر الجهود الكبيرة التي بذلت لتنمية قطاعات محددة من الصناعة فيما مضى، وباستثناء صناعات المواد البتروكيميائية، فهل يمكن اعتبار الصناعات الأخرى التي تنتج بمصانع في بلادنا صناعة وطنية إذا كان معظم مكوناتها وموادها الأولية مستوردة، ومعظم القائمين عليها من الوافدين؟ وهل القيمة المضافة التي تحققها هذه الصناعات تتوافق مع الطموح والتطلعات من أجل أن تكون الصناعة الوطنية رافداً من روافد تنويع مصادر الدخل، وخلق الوظائف لأبناء وبنات الوطن، الإجابة من وجهة نظري لا، ولابد من مراجعة الأمر برمته.
الاهتمام بالزراعة واستغلال ثروة التمور
كانت الزراعة قبل عصر النفط أهم مصدر للرزق لأبناء وسط الجزيرة العربية إلى جانب الرعي والتجارة، ونظراً لشح مصادر المياه ذلك الوقت، واعتماد الزراعة على الأمطار التي تغذي المخازن الجوفية القريبة من سطح الأرض (قبل التمكن من استخراج المياه الجوفية الغزيرة وغير المتجددة من أعماق كبيرة) فقد كان الجفاف يهدد النشاط الزراعي، وأحياناً تحصل كوارث جوع قد يفضي إلى موت البشر نتيجة جفاف الآبار عند تأخر الأمطار. ومع تطور الميكنة واكتشاف مخزنات المياه الجوفية واسعة الانتشار في بلادنا حصلت طفرة زراعية جبارة بدأت قبل قرابة أربعين سنة، أي في حدود عام 1400هـ، وكانت مثار جدل بين المختصين، يدفعه من جانب قلق لدى البعض على الأمن المائي خوفاً من نضوب مخزون المياه الجوفية بسبب استنزافها الجائر لأغراض الزراعة التي يمكن تعويض منتجاتها عن طريق الاستيراد، بينما يرى الفريق الآخر المؤيد للتوسع في الزراعة أولوية في الأمن الغذائي، وضرورة تأمين حاجة المواطن من الغذاء محلياً. ولهذا السبب عايشنا تناقضات وتقلبات عنيفة خلال العقود الأربعة الماضية بشأن سياسات الزراعة والمياه، ومن وجهة نظري أن القرارات التي اتخذت حول كلاهما تفتقر إلى الموضوعية والتخطيط السليم، وكانت الغلبة لمن يكون على موقع اتخاذ القرار، وعسى أن يكون هذا الجدل حسم بعد اعتماد الحكومة لكل من الاستراتيجية الزراعية واستراتيجية المياه اللتين استمر العمل عليهما لأكثر من عشرين سنة ولم يُقرَّا إلا قبل سنة. وفي رأيي أن التوازن مطلوب للتعامل مع قضيتي الزراعة والمياه لأن كل منهما قضية وطنية مهمة جداً. ففي مجال الزراعة ينبغي التركيز على إنتاج محاصيل قليلة استهلاك المياه من تلك التي تتميز أو تنفرد بها بلادنا، وعلى سبيل المثال، زراعة النخيل التي كانت أحد مصادر المعيشة لسكان هذه البلاد في العصور الماضية، وجرى التوسع في زراعتها خلال العقود الثلاثة الماضية إلى أن أصبحت بلادنا تملك بفضل الله عشرات الملايين من أشجار النخيل ذات الأنواع المتميزة في جودة وكميات إنتاجها، لكن من المؤسف أن التمور التي تنتج بكميات كبيرة، تفوق كثيراً الاستهلاك المحلي ولم تنل الاهتمام المطلوب من رجال الأعمال لتصدير فائض الإنتاج بعد تجهيزه بطريقة تناسب الأسواق المستهدفة ومستهلكيها، وكذلك استخدام التمور في تصنيع مشتقات ومنتجات أحسبها كثيرة للسوق المحلي وللتصدير، فزراعة النخيل ثروة وطنيةذا أحسن التعامل معها ستحقق دخلاً وطنياً يسهم بتنويع مصادر دخل البلاد. ومن أجل زراعة المنتجات الأخرى لتحقيق الأمن الغذائي كالأرز والقمح والفواكه والخضروات فيمكن لبلادنا ورجال الأعمال التوسع في الاستثمار بزراعتها في بلدان مناسبة تتوفر فيها مصادر المياه.
تنمية قطاع الخدمات المحلي:
قطاع الخدمات المحلي مليء بالفرص التي يمكن لأبناء وبنات الوطن العمل فيها، ولو نظرنا إلى قطاع التجزئة مثلاً، وركزنا على خدمات التموين من خلال البقالات وأسواق التموين متوسطة الحجم المنتشرة في الأحياء السكنية، واستعرضنا الفرص المتاحة فيها لوجدنا أن القوى العاملة الوافدة تحتكر هذا القطاع الخدمي المهم، وكذلك الحال بالنسبة لخدمات المطاعم المنتشرة بكل الشوارع الرئيسية، إضافة إلى أعمال الصيانة المنزلية، وربما مثلها كثير من أعمال الخدمات، وهذه المجالات توفر ملايين الوظائف وفرص العمل. من هنا تتبين مجالات العمل والفرص الممتازة التي يمكن مع قليل من التنظيم والضوابط أن تصبح جاذبة للقوى العاملة الوطنية، وهذا الطرح ليس من باب التنظير بل هو ما يعمل به في جميع دول العالم (باستثناء بعض دول منطقة الخليج)، فلماذا نشتكي من قلة فرص العمل وأمامنا مثل هذه الفرص الممتازة التي يمكن لأبناء وبنات الوطن شغلها والتكسب الجيد منها، خاصة بعد تنظيمها ووضع التشريعات والأنظمة التي تضمن حصول العاملين فيها والمستثمرين على حقوقهم بعدالة ومحفزات تغريهم على العمل الجاد.
استغلال قطاع السياحة المحلي:
أنشطة السياحة من مجالات الاستثمار الجاذبة في كثير من الدول، خاصة إذا توفرت متطلبات السياحة ومقوماتها مما يجذب السائح من داخل البلاد وخارجها ويرغبه في قضاء أطول مدة في المنتجعات والمواقع السياحية. وقد أصبحت السياحة صناعة رائجة من أهم مصادر الدخل في كثير من الدول التي تطورت خلال الخمسين سنة الماضية. ولم تهمل بلادنا هذا المجال وحرصت على تنميته خلال العقدين الماضيين، لكن كان التركيز على ما سمي بالسياحة الدينية، وهي الحج والعمرة والزيارة للمسلمين إلى مدينتي مكة المكرمة والمدينة المنورة، كما جرى التركيز على السياحة الداخلية في المرتفعات الجنوبية الغربية، وشاطئ الخليج العربي. وخلال السنوات الخمس الماضية بدأ التركيز على تطوير السياحة لجميع فئات السياح من خارج وداخل البلاد وفي جميع مناطق البلاد الواعدة مع التركيز على المناطق الشمالية الغربية ومنها ساحل البحر الأحمر لتكون رافداً في المستقبل للدخل الوطني، خاصة أن بلادنا الواسعة تتميز بكثير من المواقع الأثرية والتاريخية، والشواطئ الجميلة، والصحاري الشاسعة بما فيها من الرمال النظيفة البكر الجميلة التي تجذب شريحة عريضة من السياح من المناطق والبلدان التي تفتقر لهذه المزايا. ومن وجهة نظري أن هذا القطاع واعد جداً وقابل للتطوير مع إعطاء مزيد من الاهتمام والتركيز على نشاط السياحة الدينية (الحج والعمرة والزيارة) التي لا ينافس بلادنا الحاضنة للحرمين الشريفين أي بلاد أخرى، كما يمكن تطوير كافة الأنشطة السياحية التي تستهدف فئات السواح من مختلف دول العالم، مع الحفاظ على الهوية الوطنية والدينية للمجتمع المحلي على غرار ما جرى في عدد من الدول الإسلامية ومنها ماليزيا التي طورت قطاع السياحة بنجاح.
المحافظة على الموارد:
من الموضوعات المهمة التي يجب من وجهة نظري التركيز عليها كأولوية قصوى موضوع المحافظة على أهم الموارد الطبيعية من مياه وطاقة وبيئة. فكما هو معروف أن بلادنا تفتقر إلى مصادر المياه الطبيعية من الأمطار الغزيرة والأنهار والبحيرات، وكانت غالباً تعتمد على موارد المياه من الآبار غير العميقة التي تعتمد على مياه الأمطار (أو ما يعرف علمياً بمصادر المياه المتجددة) وبعض العيون التي تعتمد أيضاً على الأمطار. وكانت معدلات الاستهلاك محدودة جداً في معظم المدن قبل قرابة خمسين عاماً. وبعد اكتشاف المياه الجوفية على أعماق كبيرة مع تطور تقنيات الاستكشاف والحفر، وبعد النهضة العمرانية التي عمت أرجاء البلاد، ومن ذلك التوسع الكبير في بناء محطات معالجة وجلب المياه الجوفية لأغراض الاستهلاك المدني، وبناء محطات تحلية مياه البحر التي تعد منشآتها وإنتاجها الأكبر على مستوى العالم، ومد شبكات نقل وتوزيع المياه في المدن والقرى، أصبحت مياه الشرب متوفرة بكميات ضخمة وبأسعار رمزية، خاصة فيما مضى، وهذا ما تسبب في زيادة معدلات استهلاك الفرد ببلادنا إلى أن أصبحت من أعلى معدلات الاستهلاك في العالم، وتفوق كثيراً معظم الدول التي تحظى بموارد طبيعية غير محدودة لمياه الشرب على الرغم من أن تكاليف تجهيز ونقل المياه في بلادنا تفوق كثيراً التكاليف في كثير من الدول. كذلك الحال بالنسبة للطاقة، خاصة الكهرباء والوقود في قطاعي النقل والصناعة، وأصبحت تكاليف توفير خدمات المياه والكهرباء والوقود عبئاً كبيراً على خزينة الدولة، تستنزف مئات المليارات من الريالات سنوياً لأعمال التشغيل والصيانة ولإنشاء مشاريع جديدة لسد الطلب على الكهرباء والماء، الذي كان يتزايد بمعدلات تمثل تحدياً كبيراً للجهات المعنية بالخدمة، وأصبحت محطات إنتاج الكهرباء ومحطات تحلية المياه تسهلك كميات ضخمة من الوقود يومياً، مع عدم إغفال العوادم التي تنتج عن حرق هذه الكميات الهائلة من الوقود، وكذلك العوادم الناتجة عن المصانع وقطاع النقل، مما يسهم في الدمار البيئي، ويكلف الاقتصاد الوطني مبالغ طائلة، ويؤدي إلى الاستنزاف الجائر لمواردنا الطبيعية. لهذا يجب علينا جميعاً من أفراد وجهات مسؤولة أن نعيد النظر في نمط استهلاكنا لمواردنا بمواصلة وبعزيمة للجهود التي بذلت خلال العقدين الماضيين، وأن تراجع التشريعات، وتنفذ التدابير الفاعلة التي تقود إلى ترشيد الاستهلاك لهذه المواد ليصبح استهلاكنا من مواردنا وفقاً لما تدعو إليه الحاجة والضرورة، مع الاهتمام بمعالجة مياه الصرف وإعادة استخدامها، وتدوير النفايات، والحد من العوادم للمحافظة على أهم ركائز مواردنا الطبيعية (المياه والطاقة والبيئة) لضمان الاستدامة لها بمشيئة الله، وهذا سيوفر على خزينة الدولة والاقتصاد الوطني مبالغ طائلة.
إنتاج وتصدير الكهرباء:
تتميز بلادنا الغالية بموقعها الجغرافي المحوري الفريد بين كثير من الدول العربية، وموقعها المتوسط بين الدول الإسلامية، وقربها من دول الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى ما وهبها الله من مخزون هائل من النفط والغاز يضعها في مقدمة الدول التي تحتضن احتياطات ضخمة من مخزون الطاقة التقليدية (النفط والغاز)، كما وهبها الله مساحات شاسعة من الأراضي الخالية من العمران، وكذلك أنعم عليها بكميات لا حصر لها من أشعة الشمس التي يمكن استغلالها لإنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية. كل ذلك يؤهلها أن تصبح الأولى في صناعة الطاقة التقليدية والمتجددة إنتاجاً وتصديراً. وقد استحضرت حكومتنا هذا الموضوع وبدأت تستعد له منذ أكثر من أربعين سنة، وربما اكتمل حالياً جزء كبير من البنية اللازمة لاستثمار هذه المزايا العظيمة. ولا يختلف اثنان اليوم أنه آن الأوان أن تبدأ البلاد خطوات جادة، وأن تعمل بكل همة لتحقيق هدف أحسبه من أهم أهدافها الاستراتيجية، وأن تستثمر على نطاق واسع لإنتاج الكهرباء أولاً من النفط والغاز، وثانياً من مصادر الطاقة المتجددة، خاصة الشمسية، وتصدر الكهرباء إلى الأسواق عالية الطلب، سواء كانت من الدول العربية أو من دول الجوار، مثل السوق الأوروبية، وقد يأتي اليوم الذي تتقلص فيه أهمية النفط وتنخفض أسعاره مما يجعل الكهرباء التي تصدر بأسعار تجارية تساند بقوة مصادر دخل البلاد التي يجري العمل حالياً على تنويعها، وأنا على يقين كمتخصص بمجال الطاقة أن هذا التوجه هو الأفضل الذي يجب التركيز عليه كأولوية قصوى لتعزيز مصادر الدخل إلى جانب تصدير النفط.
الخلاصة: لست أول من يتطرق لهذه الموضوعات وأهميتها، وضرورة إعطائها أولوية، والتأكيد على تنفيذها، وقد سبق تناولها بالتفصيل من خلال مؤتمرات متخصصة ومنتديات اقتصادية، وصدر الكثير من التوصيات عن أهميتها وضرورة تنفيذها، وأشبع معظمها مناقشة وحواراً بواسطة المختصين من خلال وسائل الإعلام، وضُمِّنَ معظمها في خطط التنمية الخمسية فيما مضى، وفي رؤية المملكة 2030 . ولا تخفى علينا الجهود التي بذلت حتى الآن حول بعضها وآتت ثمارها، على سبيل المثال مجال إنشاء وتطوير الصناعات البتروكيميائية، ومجالات أخرى غيرها، كما أن المساعي الجبارة الجارية حالياً لتنفيذ عدد من البرامج التي تستهدف بعضها محل التقدير والإكبار، فعسى أن تؤتي ثمارها قريباً بمشيئة الله. ولعلي بهذه المشاركة أوضح تساؤلات بعض القراء في ضوء ما أشير إليه في بداية الموضوع.
وختاماً وكما هو معروف أن التحدي الأكبر لتحقيق الأهداف الطموحة يكمن في إمكانية تنفيذ الخطط والبرامج التي تضمن الوصول إلى مستوى الإنجاز المنشود، وهذا يتطلب إرادة صلبة، وعزيمة قوية وجدية في مواصلة العمل، وتوفير المتطلبات، نسأل الله أن يبارك بالجهود، وأن ينعم على بلادنا بمزيد من الخير والازدهار.
** **
- د.م. صالح بن حسين العواجي
salawaji@yahoo.com