باتت اليوم صناعة السلعة الثقافية السعودية والعمل الجاد على تسويقها مطلباً ملحاً تستدعيه التطورات الراهنة والآمال المعقودة على قطاعات الثقافة والفنون في بلادنا لتحقيق أهداف الرؤية الطموحة 2030م.
السلعة الثقافية قد تكون أعمالاً فنية أدبية أو بصرية أو سمعية استقت روحها من صميم ثقافةٍ ما، قد تكون فيلماً سينمائياً استوحى محتواه من العادات والتقاليد وأسلوب الحياة في المجتمع، قد تكون منتجاً مطوراً لمفردة أو عنصر ثقافي كأكلة أو زيّ أو رقصة أو طرازاً معمارياً.
إن المتأمل في تاريخ نشأة وتطور صناعة السلع الثقافية يدرك ما لها من خصوصية تميزها عن غيرها من السلع الاستهلاكية والاستثمارية الأخرى، فهي لا تفقد قيمتها عبر الزمن، بل يزيدها العمر قيمةً وثقلاً معنوياً ومادياً، كما أن ليس لها منافس أو منازع قد يسحب البساط من تحتها يوماً فهي منتج أصيل يمثل ثقافة وتاريخ شعوب وبلدان لا تشبه غيرها.
كما أن السلعة الثقافية المصنعة بشكل جيد تعد وسيلة ناجحة لبناء صورة نمطية حقيقية عن موطنها، مما يعد عاملاً مساعداً لتحسين صورة البلد وتمثيله بالشكل المراد ولبناء علاقات خارجية جيدة على مستوى الدولة والفرد.
ولعل من أهم أسباب كون السلعة الثقافية خياراً استثمارياً ذكياً أيضاً هو أنها حين تُصدّر وتسوّق بنجاح فهي تتغلغل وتتزاوج مع ثقافة الشعب الآخر حتى تكون وبشكل تدريجي جزءا من الحاضر الثقافي له أو سلوكاً تلقائياً من سلوكياته مما يضمن استمرارية الطلب. خير مثال على ذلك «الثقافة الأمريكية» التي أصبحت جزءاً من حياة أغلب الشعوب بفضل نجاح الصناعة السينمائية والبرامج التلفزيونية لهذا البلد. فبتأمل بسيط لحياة العائلة العربية اليوم نجد أن الكثيرين قد تأثروا بأسلوب الحياة الأمريكية فأصبحوا يشربون القهوة كما يفعل الأمريكيون ويتناولون وجباتهم ويمارسون أنشطتهم بالطريقة الأمريكية، يلبسون كما يلبسون ويتحدثون مثلهم، بل وأصبح أسلوب وطابع الحياة الأمريكية لدى البعض هو المعيار الذي يقاس عليه تحضر الفرد من عدمه! وبلا شك الفضل يعود للسلعة الثقافية المذكورة سلفاً _ أعمال السينما والتلفزيون_ والتي استُخدمت أيضاً كوسيلة للتسويق لسلع ثقافية أمريكية أخرى.
ومع كون الولايات المتحدة الأمريكية بلداً فقيراً بالموروث الثقافي من وجهة نظري إلا أنه نجح في الاستثمار في عناصر الثقافة القليلة التي يمتلكها، فلو حاولنا حصر قائمة المأكولات الأمريكية الأصل أو الصناعة مثلاً لوجدناها قليلة جداً إلا أنها تكاد تكون حاضرة في كل بلد ومدينة حول العالم، فلابد أنك لحظت وجود البرجر -والذي اختلف في بلد نشأته لكنه بلا شك صناعة أمريكية- في مجمدات أغلب محلات التموين الغذائي التي زرتها يوماً كما أن اسم تلك الشطيرة يتربع كخيار في صدر أغلب قوائم الوجبات السريعة في كل بلد نعرفه.
وعلى العكس من ذلك، حين نتأمل في العمق الثقافي لبلد كالمملكة العربية السعودية ونتعرف على كم العناصر والمفردات الفنية والثقافية الخام التي نمتلكها، سنتحسر على ما مضى من وقت دون استغلال هذه الكنوز المهدرة، فنجدنا بموروثها المتنوع الهائل لا تشبه ما تفيض به المنطقة الغربية بفنونها ورقصاتها وأكلاتها وعمرانها ولهجاتها وأزيائها الرائعة وهي كذلك ليست كشمالنا وجنوبنا وشرق بلادنا حيث الثراء الثقافي الملهم، بل إن كل منطقة من مناطق مملكتنا قد تفوق بلداناً أخرى في كمية وخصوصية إرثها الثقافي.
ولعل ما قامت به وزارة الثقافة في الربع الأول من العام الحالي حين أنشأت هيئات متخصصة في مجالات الثقافة المتنوعة يعد الخطوة الأولى في طريق الإنتاج الثقافي الذي نأمل أن يقود إلى مستقبل استثماري ثقافي اجتماعي يليق بطموحات رؤية بلدنا.
كلنا أمل وتفاؤل أن نسعد في المستقبل القريب بسلع سعودية أصيلة وقد أصبحت جزءاً من أساسيات ما تستهلكه وتحتاجه شعوب العالم، أن نجد أكلاتنا وقد أصبحت جزءاً من أنظمتهم الغذائية تباع طازجةً في مطاعمهم ومجمدةً في محلات تموينهم الغذائي. أن نرى الجميع يطلب ويستهلك قهوتنا السعودية العربية بقدر ما نستهلك القهوة الأجنبية، أن نُصدّر عاداتنا وتقاليدنا وأخلاقياتنا عن طريق صناعة أعمال سينمائية عالمية تليق بنا وتنقل صورة حقيقة لما نحن عليه من قيم عالية وما وصلنا إليه من علم وتطور وتميز وتكسر الصورة النمطية القديمة المشوهة التي مازالت الأعمال السينمائية الأجنبية تنقلها للعالم نيابةً عنا، أن نرى معاهداً لتعليم لغتنا ورقصاتنا وفنوننا، أن تكون الأزياء السعودية عاملاً مؤثراً في خطوط الموضة العالمية وأن تتنافس أشهر وأهم المعارض والمتاحف في العالم لاقتناء قطعاً من فنوننا البصرية.
لسنا متفائلين وحسب بل واثقين بمشيئة الله بأن هذه الأحلام ستتحقق قريباً وسترى النور في ظل الجهود الجبارة من أبناء هذا الوطن في جميع قطاعات البلد والتي تسابق الزمن لتفعيل أهداف الرؤية الثاقبة تحت قيادة ملكنا وولي عهده حفظهم الله وسدد خطاهم.
** **
ندى بنت سعد الناصر - محاضر الفنون البصرية - جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن - باحثة في مجال إدارة الفنون