ثمة من يعتقد أن أي جملة مفيدة يمكن أن تكون قصة قصيرة جداً. وهم بذلك لا يرون في هذا النوع من الأدب غير رسالته الهادفة، أو عمقه الذي يجعل لأي جملة حمالة أوجه قيمةً في ظنهم؛ فتراهم ـ وهم يأتون بالأحجيات والطلاسم ـ يبتسمون في وجهك بغرور، متجاوزين استغرابك وهم يحيلونك لحركات أحداقهم وأجفانهم وشفاههم، حتى تفهم بأن عليك أن تكون أكثر حصافة لتدرك مغزاهم العميق. وقد يسوقُ لك بعضهم تلك العبارة الممجوجة التي فقدت قيمتها من كثرة اختباء الحمقى خلفها، قائلين لك وهم يمطون شفاههم: «المعنى في بطن الشاعر» ظانين أن باستطاعتها تسويق بعض الكلام الذي لا قيمة له على أنه أدب عظيم، يصعب الوصول إلى مراميه وأهدافه النبيلة.
بالطبع لن أذكر أمثلة عن مثل هذه النوعية من الكتابات؛ فهي منتشرة، وستجدونها بالتأكيد في طريقكم، إن لم يسُقها أصحابها إليكم متباهين بها. ولكن قبل ذلك ينبغي التسلح بالنماذج الرائعة التي ترتقي بذائقتنا. فأنا لست مع إشهار السوء لاجتنابه، فقد يرسخ ويجد له مكاناً دون الالتفات إلى المحاذير التي قيلت عنه؛ لذلك سنستعرض أنموذجاً من هذه القصص القصيرة جداً الإبداعية، التي عن طريقها نستطيع أن نحدد موطئ أقدامنا، ونحاول السير على نهجها لتطوير أدواتنا. وكما تعلمون، فهذا النوع من الأدب يعتمد بالدرجة الأولى على الرسالة الهادفة التي يحملها النص، التي تُبقيه متفاعلاً معنا، ومستأثراً بتحليلاتنا واستنتاجاتنا فترة طويلة. وقد يكون مادة دسمة جداً لحواراتنا، ونحن بالفعل نحاول الوصول إلى المغزى الذي يريده الكاتب المبدع، الذي احتاج لتحقيق مبتغاه للشروط نفسها التي تتطلبها القصة القصيرة. وهي اختصاراً توافُر الحكاية، وإيقاعها الحركي، وبُعدها عن التقريرية المقالية، واختزالها، وتكثيفها، وبدايتها المشوقة، ونهايتها المدهشة، والعقدة: ربطها وحلها بطريقة محكمة. وقبل كل ذلك بالتأكيد أسلوبها الأدبي الرصين، ومفرداتها المنمقة والجزلة. ويمنحها القوة جمعها بين كل ذلك مع بساطتها وتلقائيتها التي تجعلها في متناول الجميع.
لذلك كان الجمع بين كل هذه المواصفات و»الكبسولة» الذي نبحث عنها ليس بالأمر الهين؛ فلا تجد إلا قلة ممن يجيدون هذا الفن البديع، ويتركون أثراً دائماً لإبداعاتهم، لعل منهم أديبنا الأستاذ إبراهيم مضواح الألمعي، الذي له أكثر من نص يحسن الإشارة إليه للتعريف بهذا الفن، اخترت منه قصته الجميلة «علاقة» التي يقول فيها:
«في اجتماعه بالموظفين أشار المدير إلى أن علاقته بي لم تتغير منذ كنّا زملاءَ على مقاعد الدراسة. وددت لو أنني أستطيع تنبيهه للاختلافِ الطفيف الذي حدث؛ إذ كانَ يجلسُ خلفي ليَسْرِقَ أفكاري؛ واليوم أجلس خلفه لأُقَدِّمَها له».
دعونا الآن نتحدثُ قليلاً عن هذا النص الإبداعي؛ لنتعرّف على مصدر قوته، وسبب الإتيان به هنا. فكما ترون، هناك حكاية واضحة المعالم، أحدهم يروي لنا عن سذاجتِه وصَفْوَ نيته وقت أن كان يسمح لزميله في المدرسة بسرقة أفكاره وجهده، حتى تفوق عليه، وفي قادم أيامه أصبح يمنحها له طواعية بعد أن تَرَأَسَ عليه في العمل، بينما عاد هو لمكانه الطبيعي خلفه. دون أن تذكر لنا القصة سبب ذلك، وتركته لنا حتى تُبقي أثرها لفترةٍ طويلةٍ، وإن وُضِعَ لنا ملمح بسيط يرشدنا إلى الطريق، عندما ذُكر على لسان الراوي أنها اختلافات طفيفة لا يجدر الوقوف عندها، بينما هي قاتلة في معناها وعمقها. وهنا مكمن الجمال وقوة النص، الذي أظهر لنا نموذجين سيئين من النماذج المنتشرة في أغلب المجتمعات غير المنتجة. حاول الكاتب تعريتهم من خلال هذه الأقصوصة، أحدهم مُسْتَبِدٌّ وعديمُ الأخلاقِ، يسعى للبروز وتحقيق أحلامه على ظهور الآخرين، دون حياء أو خجل، وهو مَن يتصدر المشهد. والآخر مهزوز وضعيف، يفتقر للثقة بالنفس، ويرضى بأن يعيش في الظل متطفلاً، معتقداً أن نجاحه لن يكون إلا بمهادنة مثل هؤلاء المستغلين، وتقديم فروض الولاء لهم؛ مستمتعاً بالفتات الذي يُرمى له، رغم علمه بوضاعتهم، واقتتاتهم على أفكاره. متجاهلاً عن سبق إصرار امتلاكه كل مقومات العيش والنجاح بعيداً عنهم. وهو بذلك ـ وأعني الكاتب ـ يوصل رسالة عميقة جداً، بأن هؤلاء هم سبب نكبة مجتمعاتهم، فلو تقوى الضعيف، ووثق في إمكاناته، وتحلى بالجسارة، وامتلك الطموح، لتصدَّر بأفكاره، وأفاد واستفاد، ولتنحى جانباً المعتاشون عليهم.
ومن المعاني العظيمة أيضاً التي يحملها هذا النص الإبداعي أن هناك خللاً ما ابتُليت به مثل هذه المجتمعات، لعله يكون في ضياع الأمانة، وشيوع المحاباة، التي قدّمت مَن لا يستحق، واستبعدت مَن يستحق، ولم تحاول مساندة طلائع الموهوبين، واستثمار إبداعاتهم بطريقة تزيدها ـ أي المجتمعات ـ قوة، وتقف في وجه مَن يقدم مصالحه الشخصية على مصالح مجتمعه، ويجعلها مرتعاً خصباً للفطريات بأنواعها.
** **
- حامد أحمد الشريف