في مواجهة ازدياد معدل البطالة والاقتصاد المتداعي يجد الرئيس ترامب نفسه في حاجة ماسة لإنهاء حالة الانغلاق المفروض على الاقتصاد الأمريكي بسبب جائحة كورونا وإعادة الحياة إلى حالتها الطبيعية، ولذلك قضى الأسبوع الماضي في صراع لتأكيد سلطته «الكلية» على إعادة فتح الاقتصاد، واعداً بعودة سريعة إلى الحياة الطبيعية، قائلاً «يجب علينا فتح بلدنا، يجب أن يتم ذلك بشكل آمن وفي أسرع وقت ممكن».
وتابعه في ذلك النواب الجمهوريون في الكونجرس، ومنهم النائب أندي بيجز، عضو مجلس النواب عن ولاية أريزونا، الذي صرَّح لصحيفة «بوليتيكو»، قائلاً إن قرار فتح الاقتصاد «كان يجب اتخاذه منذ فترة». ورغم اعتراف تراي هولينجسورث، ممثل ولاية إنديانا بمجلس النواب، باحتمال «فقدان بعض الأرواح» في حالة الإنهاء المبكر للتباعد الاجتماعي، فقد أوضح أن ذلك أفضل من أي بديل آخر، مؤكداً لمحطة إذاعية محلية أن صانعي القرار يجب أن يرتقوا إلى مستوى المسؤولية ويوضحوا للناس أن ذلك هو أخف الضررين. أما السناتور جون كينيدي، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية لويزيانا، فقد كان أكثر وضوحاً عندما قال خلال برنامج حواري له مع شبكة فوكس نيوز: «علينا إعادة فتح الاقتصاد، وعندما نفعل ذلك سوف ينتشر فيروس كورونا بوتيرة أسرع، وحينها سنكون مستعدين للمواجهة».
كل ذلك يؤكد أن هناك قلقاً حقيقياً بشأن العواقب الاقتصادية والصحية لاستمرار حالة الانغلاق، بيد أن الجمهوريين، وترامب على وجه الخصوص، يفكرون أيضاً في نوفمبر. فالرئيس يعلم جيداً أن مصيره في الانتخابات الرئاسية المقبلة معلّق بحالة الاقتصاد، وأن خسرانه معركة إعادة انتخابه سيسقط معه، في أجواء حالة الاستقطاب الحاد على المستوى القومي، أعضاء الكونجرس من الحزب الجمهوري.
غير أني أعتقد أن هناك عنصراً آخر وراء الاندفاع لإعادة فتح الاقتصاد، ألا وهي الديناميكية التي تتجاوز الحزبية وتفسر سبب تكتل معظم عضوية التيار السياسي المحافظ، من السياسيين والمانحين والناشطين والإعلاميين، وراء هدف إنهاء حالة الانغلاق، على الرغم مما ينطوي عليه ذلك من تهديد للحياة في أمريكا.
فلكي يبدأ في معالجة الأزمة، وجد الكونجرس نفسه مرغماً لاتخاذ سياسات كان يمكن النظر إليها على أنها متطرفة إلى حد غير مقبول تحت أي ظرف آخر. فحزمة الدعم الأولي البالغ 2.2 تريليون دولار تجاوز حجمه ضعف حجم الدعم الذي قدم في إطار قانون «التعافي وإعادة الاستثمار» الذي أجازه الكونجرس في العام 2009م. ويتوقع تقديم المزيد من العون، فالديمقراطيون، على الأقل، يفكرون في حوافز إضافية تقدر بعدة تريليونات من الدولارات، بما في ذلك دعم أساسي شامل طوال فترة الأزمة، وتوسيع برنامج «كوبرا» للتأمين الصحي لتغطية تكاليف الرعاية الصحية للمسرحين من الخدمة والموقوفين بإجازات اضطرارية بنسبة مائة بالمائة، ومقترح لتغطية رواتب العاملين بكافة القطاعات التجارية تقريباً في أمريكا. وبالإضافة إلى ذلك، غمر الاحتياطي الفيدرالي الاقتصاد بتريليونات الدولارات في شكل قروض إسعافية وسندات بهدف تحقيق الاستقرار في الأسواق والحفاظ على انخفاض أسعار الفائدة.
فخلال فترة لم تتجاوز الشهر حققت الولايات المتحدة قفزة كبيرة نحو ما يمكن أن يطلق عليه «الديمقراطية الاجتماعية للطوارئ»، إدراكاً منها لحقيقة أنه من الصعوبة بمكان تهيئة أي فرد أو مجتمع لمواجهة دمار بحجم الدمار الذي أحدثه الوباء. ومن المؤكد - في حال تطاول أمد الأزمة الصحية والاقتصادية خلال هذا العام، ومع إغلاق الشركات وازدياد معدل البطالة، وحيث إن الحكومة الفيدرالية هي الكيان الوحيد الذي يمكن أن يبقي الاقتصاد بأكمله واقفاً على قدميه - أن يتحرك الأمريكيون بقوة في هذا الاتجاه.
هذا المنطق - الذي يستند إلى حقيقة أن الفرد الأمريكي العادي بحاجة إلى الضمان في مواجهة التقلّبات الاجتماعية والاقتصادية - منطق صحيح في الأوقات العادية أيضاً بنفس مستوى صحته خلال الأزمات. فإذا صح لنا أن نفكر في قابلية تطبيق دولة الديمقراطية الاجتماعية في ظل الظروف الحالية، فما الذي يمنع تطبيقها في ظل ارتفاع معدل النمو وانخفاض البطالة؟ لا شك أن هذه الحقيقة الأساسية سوف تتبادر إلى ذهن الناخب الأمريكي، وخصوصاً في أعقاب حملتي مرشحي الرئاسة الأمريكية بيرني ساندرز وإليزابيث وارن، اللتان دفعتا الأفكار التقدمية إلى واجهة السياسة الأمريكية.
وإذا كان الخطر الانتخابي الذي يتهدَّد الحزب الجمهوري هو تحميل الرئيس مسؤولية ارتفاع معدل البطالة وارتفاع نسبة الوفيات الناجمة عن جائحة فيروس كورونا - وهو خوف مبرر، بالنظر إلى النبرة العالية التي نفى بها ترامب هذا التهديد في وجه التحذيرات الصادرة من داخل إدارته وخارجها - فإن الخطر الأيديولوجي الماثل هو تقويض المشروع الأيديولوجي الذي هيمن على الدولة الأمريكية منذ أيام الرئيس رونالد ريغان، ويشق طريقه نحو الانتصار تحت حكم دونالد ترامب.
ورغم أن الجمهوريين لم يعبروا عن ذلك صراحة فإنهم مدركون لذلك فيما يبدو، لدرجة أنهم عشية الموافقة على أول مشروع قانون بشأن فيروس كورونا، حاولوا قتل أفضل أحكام الدعم في القانون، أي التوسع الكبير في التأمين ضد البطالة، معللين ذلك على لسان السناتور ريك سكوت، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فلوريدا، الذي قال ضمن مداولات مجلس الشيوخ: «ليس من الصواب، في اللحظة التي نعيد فيها دولاب العمل، تقديم حافز يشجع الناس على القول إنهم ليسوا بحاجة إلى العودة إلى العمل لأنهم قادرون على العمل بشكل أفضل في مكان آخر». وبعبارة أخرى، ليس من الصواب تقديم دعم كبير يمكن العاملين من المساومة بفعالية للحصول على أجور أفضل.
ليس هناك ما يضمن تجاوب الأمريكيين مع الجائحة والانهيار الاقتصادي المترتب عليها بمطالبة الحكومة الفيدرالية بتقديم المزيد من الدعم. ولكن هذا الاحتمال وارد، وسيصبح أكثر بروزاً كلما امتدت فترة الجائحة. فإذا كانت فترات الكساد التي شهدتها البلاد في أواخر القرن التاسع عشر قد أحدثت شرخاً في النظام الاجتماعي، بما يكفي لفتح المجال أمام التطرف السياسي - ابتداءً من انتفاضة «تحالف المزارعين» في القطاع الزراعي وانتهاءً بتحريض الحركة العمالية في القطاع الصناعي على التسلح -فإن تأثيرات كل من الكساد العظيم وجائحة كورونا لن تقل عن ذلك.
في ظل هذه الظروف من الطبيعي أن يندفع ترامب، ومن خلفه الحزب الجمهوري والتيار المحافظ، نحو إنهاء حالة الانغلاق على حساب الصحة العامة. فها هو التيار المحافظ، بعد سنوات من التفاني الأحادي الجانب، يتجه نحو تفكيك نظام «الصفقة الجديدة» لإعادة عقارب الساعة إلى وضع يتيح لرأس المال أن يتصرف دون حدود أو قيود.
كل هذا يحدث في وقت بدأ فيه أحد أكثر الأجيال تقدمية في تاريخنا يأخذ مكانه في نظامنا السياسي، بوجهات نظر تستند إلى عقدين من الحروب والأزمات الاقتصادية.
ولكن دوام الحال من المحال، وسوف تتوالى الأحداث بلا شك، بيد أن هذه الفترة من الحياة الأمريكية تشهد، فيما يبدو، تفكك حركة ما، حركة رجعية، وتبلور حركة أخرى مختلفة تماماً في نظرتها.
** **
جميل بويي - كاتب عمود في نيويورك تايمز