لا يَذكرُ جمعةً قبلها، تلك الجمعة التي فيها تَرَكَت أمُّه ما في يدها من عمل البيت واتجهت مهرولةً نحو التلفاز، وهو معها كظلها، يمشي مرة عن يمينها ومرة عن شمالها، حتى جلست عنده، وفتحت بابي صندوقه الخشبي، فإذا الخطيب قد شرع في خطبته للحظته، فجعلت تستمع وتتمتم بالتسبيح والتأمين، وجلس أمامها يسألها: من هو ذا؟ من هو ذا؟ فقالت: عبد العزيز بن صالح.
من تلك اللحظة علق بذهنه ذلك الرجل اسمًا وصورة وهيئةً، فجعل يقلده، يصلي مثله إلى محراب، ويخطب على منبر، مرتديًا (مشلحًا) وممسكًا بعصًا.
ومضى تأثير عبد العزيز بن صالح الآتي عبر الأثير في نفس الطفل، وكبر معه، فعُني بتسجيل قراءته في التراويح والقيام، في وقت مبكر جدًّا من عمره، حتى إن الكهرباء انقطعت ليلة من ليالي رمضان عام 1404هـ فعاد إلى المذياع الذي يعمل بالبطارية ليكمل الاستماع إلى عبد العزيز بن صالح، وهو لم يجاوز السابعة من عمره!
وفي جمادى الآخرة عام 1408هـ تسنى للفتى زيارة المسجد النبوي، وبينما هو جالس في الصف، في انتظار إقامة صلاة الفجر، إذ دخل الشيخ عبد العزيز بن صالح ليؤمَّ الناس، فمر أمامه، فكان اللقاء المباشر الأول والآخر، لقد سجل الفتى تلك الثواني صوتًا، وشعورًا، وصورة ملونة، وتمنى لو قام إليه وسلم عليه وقبل رأسه.
لم يجمعهما صحبة، ولم تصلهما قرابة، ولا كان بينهما تتلمذ، ولم يغشَهُ منه معروف، ولا جمعه به جوار، إلا أن الأثر قد وصل، والتأثر قد حصل، صادف قلبًا خاليًا فتمكن... وكم عجب الفتى، والحالة هذه، كيف تأثر به طفلاً، وعني بأخباره شابًّا، حتى رثاه بقصيدة، وكتب فيه مقالاً، وألَّف في ترجمته كتيبًا، وبقي يعيد له الفضل بعد الله تعالى في تعلقه بالإمامة والخطابة.
فأما تأثر الطفل فلأنه أول ما قرع سمعه، وما فتح عليه عينه، فمسجد الحي كان مُحرَّمًا عليه، ممنوعًا من دخوله، لقد حرَّموا على الصغار دخول المسجد لئلا يؤذوا المصلين!
فإن تشبث الطفل بوالده ليذهب معه إلى المسجد، أجلسه عند بابه الخارجي، لا يرى إمامًا، ولا يسمع قراءة، ولما كان في يوم شديد البرد، وأدركت الوالد شفقة الأبوة، أدخله معه، ونزلا إلى القبو (الخلوة)، وجلس عند آخر عتبة من عتبات الدرج، فلما كبَّر أبوه لتحية المسجد، أقبل المؤذن من آخر صف مسرعًا، ولولا العرج لكان أسرع، حتى طرد الطفل، وتبعه إلى الباب الخارجي ليتحقق من خروجه!
فكان خطيب المسجد النبوي أقرب إلى الطفل من إمام مسجد حيه.
وأما تأثره شابًّا، فلِما قرأ من سيرته، وما عرف من أخلاقه، لقد كانت سيرة حافلة ثرية.
مناقب الشيخ عبد العزيز بن صالح آل صالح (1329-1415هـ) رحمه الله تعالى كثيرة جدًّا، ضم بعضها كتاب ألفه أ.د. ناصر بن عبد الله الصالح، وآخر ألفه الشيخ محمد بن ناصر العبودي، وقبلهما جمع الشيخ عبد الرحمن بن سليمان الحصين سيرته ورحلاته، فوثق شيئًا من مناقبه، وغيرها كثير مما يرويه معاصروه، وكم سمعتُ ورويتُ عنهم شيئًا منها، فكان من أول ما أفتتح الحديث به ممن ألتقي بهم من أهل المدينة أن أسأله عن الشيخ عبد العزيز بن صالح..
ويجدر هنا أن أذكر طرفًا من تلك الأخبار، يضيء كل منها جانبًا من جوانب شخصيته.
فأما قوته في الحق، ومهابته ومكانته وأمره المطاع، فيُجمع عليه كل من عرفه، ولا أرى سبب ذلك إلا ارتفاعه عن أن يحتاج إلى مسؤول، ليطلب لنفسه استكثارًا، أو لغيره مجاملة ومحاباة ومداهنة، وإذا كان زاهدًا في مكافأة الإمامة والخطابة في المسجد النبوي فهو بغيرها أزهد.
وكان نصير الفقراء والضعفاء، ومنهم الذين يتقدمون بوثائق إحياء لأراضٍ غير مملوكة، وترفض طلباتهم بعض الجهات، فينتصر لهم، لئلا يفوز بذلك زورًا أصحاب الأموال والعلاقات، ويخسر هؤلاء ممن ليس لهم نصير إلا من سخره الله لهم من عباده.
وفي ليلة ذاتها، أهان موظف أحد المشايخ المدرسين في المسجد النبوي، فعلم الشيخ عبد العزيز فسعى في تأديبه، فنُقل من يومه إلى مكان بعيد، فلم ير ذلك الموظف له ملجأ بعد الله إلا الشيخ عبد العزيز نفسه، فجاء معتذرًا له ولمن أهانه، معترفًا بخطئه، فسعى الشيخ لنقض قرار النقل فنقض فورًا!
وفي محاضرة أقيمت في نادي المدينة الأدبي، في رمضان عام 1424هـ تحدث فيها الشيخ د. علي الحذيفي ناقلاً عن الشيخ عبد المجيد الجبرتي - رحمه الله - أن الشيخ عبد العزيز أخبره عن بعض ما وقع له من أذى، وقت قضائه في الرياض، عام 1363هـ، فقال الشيخ عبد المجيد: هل أخبرت بهذا أبناءك؟ قال: لا، لا أريد أن يكون في أنفسهم على أحد شيء! وهذا خلق عظيم قلما فطن له الآباء، حيث يورِّثون أبناءهم العداوة، ويوغرون صدورهم، ويجعلونهم طرفًا في قضايا وقعت قبل أن يخلقوا.
ولقد كان تعيين أئمة المسجد النبوي تحت يده، فكان منصفًا في اختياره، متحرِّيًا الكفء في قراره، لا يجد الهوى إلى اختياره سبيلاً، لا ينظر لبلد أو لون أو عرق، وطالما رشح أئمة أندى منه صوتًا وأحسن أداءً، لم يخضع لحظ النفس، أو يستجب لدواعيها.
لقد تبوأ الشيخ عبد العزيز مكانة علمية ووظيفية كبرى، ووجاهة ومهابة، فهو رئيس المحاكم الشرعية في المدينة النبوية، وأكبر أئمة المسجد النبوي وأقدمهم، غير أن هذا لم يخرجه عن سياق حياة السماحة والبساطة، والاختلاط بالناس، كبارهم وصغارهم، وعلمائهم وعوامهم، يقضي حوائجهم، ويحقق لهم أشياءهم الصغيرة، حدثني أستاذنا وزميلنا الأكبر د. إبراهيم البعيمي، أن امرأة أرسلته للشيخ عبد العزيز تطلب منه رُقيةً، ماءً يقرأ فيه، ففعل، وأرسله لها في إناءٍ من البلاستيك، فلما فرغ الإناء، طلبت المرأة من الفتى إعادته للشيخ، فذهب لبيت الشيخ، وطرق الباب، ففتح الشيخ نفسه، فأعطاه الإناء الفارغ، وأبلغه شكر المرأة ودعاءها، فقال الشيخ: يا بُني ما أعطيتكم الإناء لتعيدوه، ولكن دعني أقرأ مرة أخرى، فملأه من صنبور قريب من الباب، وجعل يقرأ فيه، ثم دفعه إليه!
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف - جامعة القصيم