ربما أصدق المقولات التي تتردد في أروقة الحكومات الغربية تتلخص في أن النظام الإيراني غير مرحب به بين منظومة الدول الديمقراطية التي تحترم الإنسان، فنظام الملالي القرو أوسطي بين ثيوقراطية عنيفة وحسابات أيدولوجية خاسرة لا يرقى إلى طموح الإنسان الإيراني إلى نظام متصالح مع شعبه فقد ملَّ من شعار (الموت لأمريكا) الذي تردد لأكثر من أربعين عاماً ويريد من كل قلبه أن يردد شعار (الحياة لإيران) وهو ما أصبح في حكم المستحيل في ظل هذا النظام الذي يقوم على الثالوث الرهيب الجهل والفقر والمرض، ومع أخذ أمريكا زمام المبادرة في مجابهته ربما السؤال المطروح: لماذا تكره الولايات المتحدة إيران؟
لا يمكننا فهم الصراع الأمريكي إيراني بمجرد النظر إلى الأحداث الأخيرة؛ ذلك لأن الانتقال نحو حرب محتملة بين البلدين هو نتيجة لما يقرب من 70 عامًا من الصراع التاريخي، ففي عام 1951، وصل محمد مصدق القومي اليساري لرئاسة وزراء إيران بعد انتخابات شهدتها البلاد معارضاً وقتها التدخل الأجنبي ومقراً لمشروع تأميم شركة النفط البريطانية الذي أثار غضب البريطانيين، فهي كما وُصفت بأنها «أكثر الشركات ربحًا على هذا الكوكب»، وما لبث مصدق أن أقصي في انقلاب بمساعدة أمريكا عام 1953، وجيء بالشاه الذي سوَّق من نفسه حليفاً قوياً ضد الشيوعية السوفيتية، لكنه سار بالبلاد نحو الهاوية فثار الإيرانيون عليه في عام 1979 ومن هذا التاريخ عزفت الجماهير صادحة مع النظام الأنشودة الإيرانية المعروفة بـ»الموت لأمريكا» ووصفتها مع زعيمها الخميني بأنها «الشيطان الأكبر».
وكان من الطبيعي مع هذا الثوران الشعبي الذي أجَّجه النظام أن تستولي مجموعة متشدِّدة من الطلاب الإيرانيين على السفارة الأمريكية في طهران، محتجزة 52 أمريكيًا كرهائن في عملية استمرت 444 يوماً حتى إن الرئيس ترامب هدَّد في وقت ما بمهاجمة 52 موقعاً إيرانياً وهو نفس العدد الذين تم احتجازهم كرهائن في السفارة وهو ما يوحي بالظلال التاريخية القاتمة بينهما. وفي سنوات لاحقة عملت إيران على تصدير علامتها التجارية الثيوقراطية إلى الخارج حتى كان تقييم وكالة المخابرات الأمريكية المركزية (CIA) منذ مارس 1980، لإيران بأنها «تهديد للمصالح الأمريكية الرئيسية»، وجعلت مواجهة إيران هدفًا إستراتيجياً للسياسة الخارجية التي كان آخرها انسحاب الرئيس ترامب من الصفقة النووية الإيرانية التي أقرّها أوباما واصفاً إياها بأنها الأسوأ في تاريخ أمريكا لأنها تتيح تدفق الأموال (عبر تخفيف العقوبات) لاستخدامها في تمويل أنشطة غير صالحة في المنطقة وبالفعل بدأ فريق إدارة ترامب النظر في التطورات الاقتصادية في إيران لمعرفة تأثير العقوبات الأمريكية التي كانت ذات فعالية عالية، فبعد أن كانت إيران تصدِّر 2.5 مليون برميل من النفط يوميًا انخفض هذا العدد إلى نصف المليون تقريباً وهو ما يعني فقدان الاقتصاد الإيراني عنصراً أساسياً في بقائه على قيد الحياة، وهو ما أدى إلى تقلّصه بنحو 14 % في عام 2019 .
وفي تقديرات لصندوق النقد الدولي توقّع أن يتقلّص الاقتصاد الإيراني بنسبة 9.5 % في حين سيتجاوز التضخم 35 % ويتشكَّل الواقع الطاقوي الإيراني من النفط والغاز ومع كون المخزون الإستراتيجي من الغاز الطبيعي يعد هائلاً فإن مساهمته في حجم الصادرات تعد ضئيلة، فقد بلغت إيراداته حوالي مليار دولار عام 2007، لتتراجع بعد ذلك حتى يومنا هذا بفعل ثلاثة أمور الأولى: بعد إيران عن أسواق الاستهلاك الأوروبية والآسيوية وكونها حكراً على روسيا. الثاني: ضعف القدرات التكنولوجية بسبب العقوبات الاقتصادية. والثالث: عدم وجود استثمارات مناسبة جراء الضغوط الأمريكية التي تحول دون ذلك. وهذا ما جعل الاقتصاد الإيراني بين مطرقة الضغوط الأوروبية وسندان العقوبات الاقتصادية الأمريكية. وأما في القطاع الزراعي فهناك أكثر من 20 مليون هكتار كان لها أن توفر الاكتفاء الذاتي لكن واقع الحال أن إيران تعتبر مستوردًا كبيرًا للحبوب الرئيسية ولا تتجاوز إسهامات القطاع الزراعي في الناتج المحلي 10 % ويبقى الماء بعد ذلك مسألة جوهرية، فإيران تتجه نحو جفاف شديد وهو ما يعني هجرة ريفية واسعة، فبحلول عام 2013 كان هناك 12 مليون شخص يعيشون في مشارف المدن وفي عام 2018 ارتفع العدد إلى 19.5 مليون بزيادة تبلغ سبعة ملايين ونصف المليون في خمس سنوات فقط بسبب عدم القدرة على استصلاح الأراضي الزراعية من جراء نفاد المياه. ويقدَّر أن إيران لديها عجز سنوي في المياه يصل إلى ما يقرب من 20 مليار متر مكعب يتم تعويضه من خلال سحب طبقات المياه الجوفية بوتيرة مرعبة، ومع ارتفاع عدد السكان من 35 مليونًا إلى 84 مليونًا تقريبًا وهو ما يعني كمية أقل من المياه والغذاء ومع أن قطاع الزراعة يلعب دورًا مهمًا في توفير فر ص العمل، حيث سجَّل 32 % من القوى العاملة في تسعينيات القرن الماضي فإنه شهد بعد ذلك انخفاضات بوتيرة متتابعة ومع كون العقوبات كانت موجهة تقريباً لقطاع الطاقة لكن آثارها قد مست جميع القطاعات.
ومع استمرار هذا الحصار الاقتصادي الذي يحرم إيران من تدفق الموارد المالية والعملات الأجنبية وهو ما يعني خسائر اقتصادية متراكمة دفعت مرشد الثورة الإسلامية إلى الخروج للشارع بنظرية أطلق عليها نظرية الاقتصاد المقاوم وهو ما سيطرح تساؤلاً: إلى أي مدى ستفلح هذه النظرية التي ابتكرها هذا المرجع الخامنئي ففي تصريح سابق لروحاني يقول: (كلنا نعرف جيدًا أننا لسنا في ظروف طبيعية واصفاً الوضع بأنه الأسوأ منذ أربعة عقود) مع أن المشكلة ليست اقتصادية بحتة، فالحرس القديم للجمهورية الإسلامية في سنِّ الشيخوخة، ويدرك المرشد الأعلى علي خامنئي أنه قد لا يكون بعيداً عن الرحيل مخلفاً وراءه نظاماً متصدعاً ومتهالكاً ومع إلقاء نظرة سريعة على تركيبة المكون الرسمي الإيراني فإننا نجد الماضي حاضرًا دائمًا مع مزيج من الفخر في الثقافة الإيرانية والشعور بالاضطهاد مع النزعة إلى الاستقلال ورفض الإملاءات الخارجية وهو ما يجعل النظام يعوّل على استمرار المزاج الشعبي الذي نشأ عند قيام الثورة وهو ما لا تؤيّده الوقائع ولا مراكز البحوث.
وفي تقديرات أمريكية حديثة بلغ إنفاق إيران حوالي 16 مليار دولار على العراق ولبنان واليمن منذ عام 2013 و10 مليارات دولار على سوريا و700 مليون دولار سنوياً على حزب الله، ومن الصعوبة بمكان استمرار هذا الدعم ماليًا وسياسيًا وهذا ما يجعل تمددها في العواصم العربية عرضة للانكماش أيضاً وقد شهد النظام إلى فترات قريبة - مع ما شهده من أحداث جسام تمثَّلت في مقتل قاسم سليماني الذراع العسكري للنظام في المنطقة - ثورات شعبية عارمة هزَّت أركانه وهي ليست أول الثورات ولن تكون آخرها كل هذا يعطي انطباعاً عاماً أن نظام الملالي يعيش فعلاً أزمة وجود أو ثبات على الخريطة الدولية أرى معها أن ما قاله كاتب صحيفة ديلي تلغراف كون كوغلن (إن النظام الإيراني «يواجه خيارين إما الإصلاح أو الانهيار») غير مجدٍ وأن فرص الإصلاح في تضاؤل. والسؤال المطروح: إلى أي حد سيصمد هذا النظام أمام هذه الضغوط الخارجية والطبيعية المفروضة عليه التي جعلته أمام عزلة مزدوجة فرضها وباء كورونا والعقوبات الأمريكية. ومن خلال قراءة سابقة لردة فعل القادة الإيرانيين تجاه أحداث سابقة نستطيع أن نستنبط منها طبيعة السياسة الإيرانية الخارجية التي ترضخ في النهاية للضغوطات، ففي عام 1981، أطلق الخميني الرهائن الأمريكيين دون تحقيق مطالبه الكاملة، لقد فعل ذلك ليس بسبب البروتكولات الدبلوماسية، بل لأن عزلة إيران أصبحت أكبر من أن تتحمّلها، وبالمثل قبل الخميني وقف إطلاق النار عام 1988 تاركاً صدام حسين وشأنه مع أنه أقسم في وقت سابق أن ذلك ما لن يقبله أبدًا، وذلك لأن مواصلة الحرب أضرَّت بالاقتصاد وعرَّضت النظام الثوري للخطر.
وخلال إدارة أوباما جاء الرئيس حسن روحاني إلى طاولة المفاوضات بسبب الضغوط الاقتصادية، وكل من ينظر نظرة فاحصة على تكوين النظام الإيراني يدرك مدى التشققات الداخلية والعميقة داخله مع أن الظاهر لأول وهلة لأي إنسان بسيط أن إيران دولة دينية وأن آياتها الآخرون يدعمون المرشد الأعلى، وهذا اعتقاد خاطئ لأن الواقع الثابت أنه لا يحظى بشعبية كبيرة بين رجال الدين، زيادة على أن هناك من يرى عدم صحة وجود ما يُسمى بحكم الفقيه في الدين الشيعي وأنه أتى إلى السلطة في ملابسات غامضة شبهها البعض بأنها أشبه بعملية احتيال، حيث يذكر أن حسين منتظري الذي رحل عام 2009 كان هو الخليفة المتوقّع للخميني، إلا أنهما اختلفا قبل أشهر قليلة من رحيله ومرد كره معظم آيات الله في إيران لمرشدها أنه في نظرهم رجل دين عادي متوسط القدرات، وليس هذا وحسب، فهناك معارضة من آلاف الإيرانيين بمن فيهم الماركسيون والمثقفون ومؤيّدو رئيس الوزراء الأسبق محمد مصدق هؤلاء الحلفاء العلمانيون الذين ساعدوا الخميني في الإطاحة بالشاه، وتعرّضوا للطعن على الفور في الظهر بمجرد أن ذهب مَن هم في حقيقة القول شوكة في خاصرة النظام. حتى ولو ذهب متفائل إلى أن النظام سيتمكَّن من الصمود لبرهة من الزمن فكيف له أن يصمد طويلاً مع كل ما سبق ومع ما يمنحه القدر من أحداث تسهم في وتيرة الانهيار، كما في سقوط الطائرة الأوكرانية وما سينتج عنها من عواقب.
كل هذه الكوارث وهذه الجبهات التي فتحها النظام على نفسه في كل اتجاه حتى أصبحت ثقافة الصراع هي السمة التي يُعرف بها والعلامة المسجَّلة باسمه تعمل مع بعضها مجتمعة في تقويضه من الداخل حتى أصبح المزاج العام لدى الشعب هو الامتعاض المطبق؛ ظهر هذا جلياً في الانتخابات التشريعية القريبة التي شهدت أضعف نسبة إقبال منذ قيام الثورة، وهذا الذي ينبغي أن تعمل عليه أمريكا مع حلفائها لأنه وإن كان هو الحل الذي قد يستغرق وقتاً أطول ولكنه الحل الذي قد يكون أقل ضرراً والأجدى نفعاً، فالذي يتصفَّح تاريخ هذا النظام لا يخالجه شك بأنه نظام قمعي أشبه بمنظمة إرهابية منتشرة حول العالم تتخذ من طهران مركزاً لتحركاتها منه إلى دولة دستورية تحترم الأعراف والقوانين، لذلك فإن زواله أصبح حاجة ضرورية يجب أن تتبناها الأمم المتحضِّرة ونحن نعني بذلك النظام لا الشعب الإيراني الصديق الذي يطمح إلى قيادة تواكب المتغيِّرات وتلبي الطموحات وتجنبه هذا الصداع المزمن، فمن منا لا يتمنى أباً في بيته مثقفاً واعياً لديه صداقات وعلاقات مع جيرانه مع وفرة مادية وحياة مستقرة تساعده على التمتع بطيبات الحياة ويعايش الآخرين في سلام؟!
** **
- خالد الغيلاني