الجزيرة الثقافية - محمد المرزوقي:
يقول إرنست هيمنجواي: «ابتعادنا عن البشر لا يعني كرهاً أو تغيراً.. فالعزلة وطن للأرواح المتعبة»، هكذا تبدو ثقافة العزلة عند هيمنجواي، عزلة مرتبطة بمحطات التعب، وصدمات المتاعب، تلك العزلة التي تنشأ عن مواقف حقيقية، في مجتمعات حقيقية لا افتراضية! إلا أنه بعد أن انكمش العالم من قرية كونية.. إلى غرفة عالمية! ذابت فيها الكثير من المفاهيم الثقافية، والخرائط الذهنية، وحدود المكان والزمان، أصبحت معها متغيّرات تنشئة الأجيال في تحولات متنامية الظواهر الجديدة، طالت تأثيراتها عواطف.. ووجدانيات.. وسلوك النشء.. بفعل وسائله.. وتبعاً لاستهلاك وسائطه!
ومع أن ثقافة العزلة قديمة قدم الإنسان الذي تشكلت معه العزلة بتشكل مراحل الحياة، على مستوى الأفراد والمجتمعات والدول.. إلا أن وباء «كورونا» المستجد، أعاد إلى المشهد العالمي أن يعيش العزلة «الواقعية»، تبعاً لما افترضه معنى العزل من إجراءات وقائية واحترازية وعلاجية، على المستوى العالمي، الذي أعاد إلى الذهنية العالمية قطبي المعادلة ما بين عزلة المجتمع الحقيقي، والعزلة عن المجتمع في المجتمعات الافتراضية حول العالم، ما جعل من فئات اجتماعية من مستخدمي شبكات التواصل يصفونها بشبكات «القطيعة» المجتمعية، كأحد أبرز المفاهيم التي سكها مستخدمو التطبيقات الشبكية في مواجهة مفهوم «التواصل»، الذي شهد إحلالا متناميا للعزلة بدلا من التواصل، والافتراض بديلا للواقع!
وفي مقولة أخرى لهيمنجواي: «ليس هناك من شيءٍ نبيل في تفوقك على رفقائك الناس! النبل الحقيقي.. هو في تفوقه على نفسك السابقة!»، فكما أن العزلة لم تكن وحدها أشهر سمات الظواهر المجتمعية في ثورة تقنيات وسائل الإعلام ووسائط الاتصال، إذ إن «الفردانية»، أيضاً كانت من أبرز سمات هذه المرحلة التي يعيشها العالم، ما جعل من هذه الوسائل ووسائط الاتصال تتحول من الدور «الجماهيري»، إلى التوجه إلى «الذرات» المجتمعية، لتقتحم الفردانية بما يعرف بمحتوى «التفتيت» بتدفقات هائلة متزامنة ولا تزامنية من المحتوى الرقمي، ما يعيد (أم تحديات) المواجهة إلى «الفرد»، الذي عليه أن يتفوق على عزلته السابقة الافتراضية بما تفرضه الحالة الراهنة مع وباء كورونا المستجد من عزلة حقيقية.. وقائية.. واحترازية.. تعكس مدى وعي الفرد بثقافة العزلة، وإدراكه لمتغيرات مفاهيمها، ومستجدات التعايش معها، أو العيش من خلال من خلالها، بوعي متزن تجاه مستجدات ثقافة العزلتين: الواقع، أو الافتراض، على المستويات.. العاطفي.. والوجداني.. والسلوكي، الذي تؤكده (قصة الحضارة)، بأن الثقافة فعل.. وبأن الثقافة سلوك!