لقد دفعني الحديث عن موضوع يهم كل إنسان منَّا في هذه الحياة وهو مجال النقد الذَّي يتعدد أنواعه سواء كان دينياً أو اجتماعياً أو ثقافياً أو سياسياً أو أدبياً أو علمياً، فإنه يشعل الطريق نوراً وضياءً وإشراقاً ويوجه القراء إلى أهداف متعددة وغايات هامة فإذا كان الناقد يتحلى بالنزاهة والأمانة والصدق بما يتحدث عنه فإنه بهذه الطريقة يحرك الأذهان والوجدان ويجد نفسه أنه يقدم رسالة تمتاز بالإضاءة والتنوير.
وإذا خرج الناقد عن مسار الصواب فإن اللفظ الحاد يعصف بصوابه يمنة ويسره كما قال الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (سورة النحل آية 124-125).
فإن الدعوة الحسنة تشمل كل اتجاه يهدف إلى عوامل الإصلاح سواء كان اجتماعياً أو أدبياً أو سياسياً فإنه من خلال هذه الأمور قد حقق ثقة القراء وترفع عن مزالق الإسفاف والسّقوط.. فنحن لا ننكر كافَّة اختلاف الأقلام في حومة الحوار والنقاش - كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (سورة هود آية 118).. بل نؤكد تمام التأكيد أن الاختلاف ظاهرة صحية بين الناس تدل دلالة على أبجديات الحرية وبعد النظر الممتد، وهو يُعد مظهراً من مظاهر العدل والمساواة التي تترك مجالاً واسعاً للتعبير لكل من يريد، ولكننا نريد من الناقد أن يكون قاضياً لا محامياً حتى يستطيع أن يزن الأقوال ويحاول أن يناقش الأدلة بحكمة وروية حتى يشعر القارئ الكريم أنه أمام كاتب موضوعي يهدف إلى إبراز الحقيقة مع إيضاح كل صغيرة وكبيرة - فالواجب على كل ناقد متمكن أن يتحلى بسعة الصّدر وسعة البال إذا لمس أنه في طريقه إلى الصّواب فإنه يحاول بقدر الإمكان أن يسارع في القبول وأن يعلن ارتياحه التام للصواب مما يزداد علواً ومكانة في نظر القارئ الكريم وأما إذا امتطى قارب الشطط وواصل الدفاع المستميت عن الرأي الخاسر فإنه في تلك الحالة أنه قد ثبت قدميه داخل الوحل ونسي أن القارئ حكم عليه بالابتعاد عن الطريق الصحيح على أن الحق لا يختفي متى اتضح الدليل القاطع.
ومن المعترف به أن الكمال في النّظم البشريَّة متعذر على كل إنسان لأن الكمال المطلق لله وحده والنّاقد المنصف حينما يتعرض لمناقشة موضوع (ما) ويطرح كل الجوانب الإيجابية عن الموضوع فإن الآخرين لن يقتنعوا على السّاحة والنّفوس البشريَّة عادة ذات أمراض خلقية تتطلب المثابرة والمطاولة حتى تفيء إلى طريق الحق -كما يقول الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (سورة فصلت آية 34).
ومن الأمور الطيبة والجميلة عندما يحتمي الحوار أو النقاش الحاد فيجب على الطرق الثاني بما يسمع من وجهات نظر متعددة أن يرحب ويبدي رأيه في تبرير ما يجده من ضرورة مخالفة تقتضيها ظروف الزّمان والمكان؛ أما التمسك بالطرف الأقصى في كل مسألة تطرح فلن ينتهي إلى لقاء تتصافح فيه الأكف وذلك لعدم التكافؤ بين المتجادلين وعدم الندية على الأقل في إقناع كل طرف.. فالحوار هو عملية ضرورية للتعايش لا غنى عنه ولا مناص إلا إذا لم يكن مسجياً بمجموعة من الضوابط التي تحد من عملية الجدال أو الخصام أو الصراع.