المعلِّمون الأكفياء يخلِّفون في وِجدان طلَّابهم ما لا يَبلى، ويسطِّرون على صفحات أفئدتهم ما لا يُنسى، ويبقَون على مدار السنين قدوةً وذكرى!
ومن خير هؤلاء ممَّن علَّمني العربيَّة في مرحلة الدراسة الثانوية امرأةٌ نبيلة أصيلة، ذاتُ شخصية فذَّة وحضور طاغ، جمعَت بين التمكُّن من المادَّة العلمية، وحُسن التوجيه والتعليم، مع فصاحةِ اللسان، وعذوبةِ البيان، في نبرةٍ آسرةٍ لا يزال صداها يتردَّد في أذني على تطاول السنين، وتمادي العهد بتلك الأيام، ويا ما أُحَيلاها من أيام!
دخلت علينا قاعةَ الدرس بخطىً واثقة، وقسَمات حازمة، واعتلت مِنصَّة التعليم بقَوامها الفارع، وما كادت تصوِّب نظَراتها إلى الطلَّاب، حتى ساد صمتٌ مُحكَم، وغدت ثرثراتُ المشاغبين وهمهماتُهم أثرًا بعد عين!
ومضَت دروسها طَوالَ العام على تلك الحال من الانضباط والسَّكينة، لتَخلُصَ للنفع والعطاء غيرَ مَشوبةٍ بشائبة. حتى عُتاةُ الشَّكِسِين المزعجين من الطلَّاب ممَّن أعيَوا الأساتيذَ بسوء سلوكهم وتنمُّر طباعهم باتوا في حِصَصها هُريراتٍ أليفةً لا تملك أن ترفعَ رأسًا أو تُصدرَ صوتًا! فإن سوَّل لأحد هؤلاء شيطانُه أن يُحدثَ شغبًا فما كانت الأستاذةُ تزيد على أن تصمتَ هُنَيهةً، وتصوِّبَ نظراتٍ صارمةً إلى مَصدَر الشغَب، وتقولَ بنبرة جادَّة يُخامرها عتابٌ رقيق: (طلاب ثالث ثانوي، ما عوَّدتموني إعطاءَ الملاحظات) فما أسرعَ أن يفيءَ الجانحُ عن جنوحه، ويحورَ المتمرِّد إلى الجادَّة، فتمضيَ في درسها وكأن شيئًا لم يكن!
أما مادَّة الدرس فمتعةٌ للعقول والأرواح، وإذا كان لفصاحةِ لسانها وجَرْسِ صوتها وقعٌ في الآذان مُطرِب، فما ظنُّك به حين يكون شعرًا يُنشَد، أو أدبًا رفيعًا يُعرَض؟! فلا تسَل بعدُ عن حال الطلَّاب وقد حلَّقوا مع الأستاذة في فضاء الكلمة المُبينة والبلاغة المُعجِبة!
ومن أياديها علينا، وما أكثرَها! يدان تُذكران فتُشكران؛ أوَّلهما تشجيعُنا على النقاش الحرِّ والحوار الجريء المنضبِط بحُسن التأتِّي، والأخرى حثُّنا على التعبير عن خلَجات النفس والإبانة عن هواجس الصدر من رؤًى ومشاعر.
ولعلِّي لا أغادر الحقيقة إن قلت: إن الأستاذة من أول من اكتشفَ موهبتي الأدبية، وشجَّعني على استكمال أدواتها، والمضيِّ قدُمًا في دروبها.. وما كنت أظنُّ قبل ذلك من نفسي إلا العِيَّ والحصَر، والعجزَ عن الكتابة والتعبير!
ومن هنا أن كنت أُرجئ المشاركةَ في إلقاء ما تُكلِّفنا إنشاءَه من موضوعات في مادَّة (التعبير والإنشاء) تهيُّبًا ووجَلًا، وكانت سُنَّتها معنا أن يُلقيَ عددٌ من الطلَّاب في كل حِصَّة ما كتبوه، ثم تعلِّق على موضوعاتهم بما يقوِّم المُنآدَ، ويُنير السبيل، ثم تتيح لسائر الطلَّاب الإسهامَ في النقد والتقويم.
ولمَّا كان اسمي يبدأ بحرف الألف فقد كنت ممَّن ينبغي أن يكونَ في طليعة من يُلقون موضوعاتهم من الطلَبة، بيد أني كنت أستمهلها على الدوام وأطلب تأجيل مشاركتي إلى حِصَّة أخرى، وهي توافق بأريحيَّة وسماحة. وما زلتُ على هذه الحال من الارتياع والتخوُّف حتى أزفَ الموعد؛ إذ لم يبقَ من الطلَّاب إلا قلَّةٌ قليلة لم يُلقوا موضوعاتهم، وكانت الحِصَّة القادمةُ هي الموعدَ المحتوم لهم، وكنت بلا ريب في مقدِّمتهم.
انتابني شعورٌ من التوجُّس والفتور حالَ دون أن أكتبَ الموضوع في المنزل، وفي اليوم التالي كانت الحصَّة الأولى لمادَّة النصوص والحصَّة التالية لمادَّة التعبير والإنشاء، وبينهما فُسحةٌ للراحة لا تزيد على ربع ساعة، ولمَّا انتهت أولى الحصَّتين رمقَتني الأستاذة بنظرةِ تشوُّف، وقالت: في الحصَّة التالية سنبدأ بموضوعك فكن مستعدًّا. هزَزتُ رأسي وخرجت إلى الفُسحة أَهيمُ على وجهي لا أدري ما أفعل! فالوقت المُتاح قصير، ومجال التفكير والتحبير ضئيل، فما عساي أكتب، وأنَّى لي أن أُعبِّرَ وأُنشِئ؟!
ولكن لا مَفرَّ من كتابة الموضوع ولا مَهرَب! فما كان مني إلا أن أطلقتُ لقلمي العِنانَ ليمضيَ على سجيَّته، أسابق به على عجَل الدقائقَ والثواني، أدوِّن كل ما يخطُر ببالي من عناصر الموضوع، بخطٍّ كخَربَشات طفل لاهٍ، حتى قُرع الجرس مؤذِنًا بانتهاء أمَد الفُسحة، موافقًا إثباتي نقطةَ الختام.
لم أتمكَّن من مراجعة ما كتبت، ولا حتى إلقاءِ نظرةٍ عابرة عليه، وهُرعت إلى الفصل مضطربًا، وما إن ولَجت من الباب حتى دخلَت المعلِّمة خلفي، ولم أكد ألتقط أنفاسي حتى سمعتُ اسمي يُنادى به على رؤوس الأشهاد!
مضَيت إلى المِنصَّة متثاقلًا أقدِّم رِجلًا وأؤخِّر أخرى، قد استولى عليَّ شعورٌ من الرهَب والحياء، فلا أدري على الحقيقة ما كتبت، ولا كيف كتبته! وشرَعتُ في إلقاء الموضوع، ولساني في فمي يتلجلَج، ولكنِّي كلَّما مضَيت شوطًا اختلست نظرةً إلى معلِّمتي فأرى علامات الارتياح على وجهها بادية، فيُسرِّي ذلك عني بعضَ ما أجد، حتى أتممتُ الإلقاء.
وها هنا كانت المفاجأة التي لم أتوقَّعها، لقد انفرجَت أساريرُ الأستاذة عن بهجةٍ وإعجاب، وأغدقت عليَّ ما لم أكن أحلُم بقليل منه من عبارات الثناء، وكالت لموضوعي من صنوف المديح والإطراء، ما جعلني أقف متحيِّرًا مُهَوِّمًا لا أدري أفي صَحوٍ أنا أم نوم!
وإني لعلى يقين أن ما كتبته حينئذٍ لم يكن يستأهلُ ما فاضت به عليَّ من إشادة، إلا أنها كانت ترمي من وراء كلماتها إلى تحطيم صخرة الوهم التي حجزَتني عن التعبير من قبلُ، وأخلدَتني إلى شعور بالعجز والخوَر، وما أنا بعاجز ولا خائر!
ولقد كان لذلك الموقف أثرٌ عميق في نفسي، ومن يومئذٍ باتت حصَّة التعبير والإنشاء أحبَّ الحصص إليَّ، وصرت أحبِّر ما أكتب تحبيرًا، وأعيد النظر فيه كرَّة بعد أخرى، ولا أزال محتفظًا بدفتر المادَّة وعلى هامش كل موضوع من موضوعاته عباراتُ تقريظٍ وتشجيع بخطِّ أستاذتي الجليلة.
وممَّا أعتزُّ به حقًّا موضوعٌ من تلك الموضوعات، استفرغتُ في إنشائه وُسعي، وبذلت في إتقانه وُكدي وكَدِّي! غير أن الأستاذة ارتابت فيه، وظنَّت أني التمستُ مساعدةً من خبير حاذق، أو عونًا من كاتب ماهر! ولا والله لم يكن إلا من بنات أفكاري وصدًى لمشاعري وإحساسي! فخطَّت لي في هامش الموضوع كلماتٍ لا ينقضي فخري بها، تقول فيها: (موضوع ممتاز، أحسنتَ فيه وأجدتَّ إن لم تكن استعنتَ بغيرك، وفقك الله وإلى مزيد من الإبداع).
تلكم الذكرياتُ البهيَّة تمثَّلت في مخيِّلتي غِبَّ خبر فاجع بلغني، أمضَّ قلبي وأحزنني، وأقضَّ مضجعي وآلمني.. لقد مضَت أستاذتي النبيلةُ الأصيلة لبابة الكِيلاني إلى باريها الكريم سبحانه، قبل أيام قليلة، عن سبع وسبعين سنة، بعد ابتلاء بداء السَّرطان لازمها سنين، غفر الله لها وكفَّر عنها ذنوبها، وتولَّاها بعفوه ورحمته؛ كِفاءَ إخلاصها في عملها، وصدقها في أداء رسالتها، والنهوض بما نِيطَ بها من أمانة التربية والتعليم.
وهي لبابة بنت صادق الكِيلاني (بكسر الكاف)، المولودة بمدينة حماة عام 1944، لأسرة عريقة شهيرة، وأمها الأستاذة فوزية الريِّس من أعلام المربين والمعلمين هناك. تخرجت الأستاذة لبابة في قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة دمشق عام 1970، وعملت سنواتٍ طويلةً في التعليم، واختيرَت معلِّمةً أولى تحضُر للمعلِّمات الدروسَ وتوجِّهُهنَّ. وكان لها نشاطٌ اجتماعيٌّ وحضورٌ ثقافي. توفَّاها الله في مشفى الشامي بدمشق مساء السبت سادسَ عشرَ ذي الحِجَّة 1440 هـ (17/ 8/ 2019 م)، وصُلِّي عليها في اليوم التالي بعد صلاة الظهر بجامع سعد بن معاذ بحيِّ المالكي، ودُفنت في مقبرة مَعْرَبا بريف دمشق.
لله ما أخذ ولله ما أعطى، وكلُّ شيء عنده بأجل.
و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
** **
- أيمن بن أحمد ذو الغنى