بيان عاجل ومنتظر، يُعلن فيه عن دخول شهر رمضان المبارك وتحقق رؤية هلاله، ما أن يعلن المذياع هذا الخبر ، حتى تعم الفرحة أطفال قريتنا العتيقة (مصاولي) ، رشقات من الرصاص تطلق في الهواء ابتهالا وترحيبًا وفرحة وإعلانا بقدوم هذا الشهر الكريم.
كنا نعلم - كأطفال - مسبقًا ، أن هذا الشهر تكون الموائد فيه عامرة بما لذ وطاب من الطعام والشراب ، قياسًا بأوقات السنة الأخرى ، وخاصة (المحلبية) ذلك الطبق الاستثنائي الذي يُعالج (بقطر الموز) فيعطيها لذة لا تقاوم ورائحة لا تقارن.
لم يكن ينغص عليّ حلاوة رمضان سوى شويهاتنا ، فالغنم في قاموس والدي ووالدتي لها أولوية كبرى قد تسبق في بعض الأحيان ما نريده كأولاد في البيت ، كان رعي الغنم من الكوارث بالنسبة لي ، ففيه بعد عن البيت ، وفيه حرمان من مشاهدة برامج الأطفال في رمضان ، وخاصة مغامرات الفضاء في إصدارها الأول العجيب والغريب ، كانت الحلقة الأولى تعاد لي رواية من أخوي الصغيرين ، وكانت تفاصيل المعارك مع وحوش (بيغا) وقوة (غرانديزر) تشي لي بفيلم كرتوني مختلف لا يقاوم ، ولكن ما العمل ، وأنا مكلف برعي الغنم في عصر كل يوم رمضاني ؟! .
عزمت على تغيير الجدول المعد لنا مسبقًا من قبل أبي ، ففترة العصر كانت من نصيبي ، وكان استمراري في تغطيتها يعني حرماني من مسلسلات علاء الدين، وبعده ربوع بلادي بصوت الإعلامي الراحل العظيم خالد زارع الذي كان يأخذنا في رحلات إلى مناطق المملكة في سيارة الجمس الوارفة، وتلك الموسيقى الخالدة في أذهاننا وصوته الإذاعي الخالد .
كان لا بد من قرار سيادي من والدي يعفيني من رعي الغنم في فترة العصر ، فترة الذروة والمتعة في كل شيء .
استجمعت قواي ورباطة جأشي ، وذهبت إلى والدي وفي مرافعة تخللتها شيء من الدموع والرجاءات الحارة ، وافق والدي على تقسيم هذه الفترة بيننا نحن الثلاثة ، وهنا أصبحت قادرًا على متابعة برامج التلفزيون الخاصة برمضان .
في فترة ما بعد العصر تبدأ النساء ربات البيوت في تجهيز أنفسهن (وملاهبهن) لصناعة الخبز ، وخاصة خبز الشعير ذلك الخبز الذي يُعد بعناية فائقة ، فيخلط بمقادير محددة من الشعير مع (البلسن ) ثم يُسخن ويُنخل ثم يُخبز ، كانت روائح الخبز في أزقة قريتنا تملأ المكان وكان الجميع بانتظار اللحظة الفارقة لحظة الأذان لحظة الإفطار .
قبل ذلك كان عندنا طقوس ما يعرف بالفطرة ، وهي صدقة يجريها أحد المحسنين على المسجد ومصليه، كنا نذهب فتيانًا وفتيات ننتظر ذلك المحسن وهو يحمل على كتفه (زنبيل ) التمر الممتلئ ، ونكون جميعًا على أهبة الاستعداد في صفين متناظرين ، أحدهما للأولاد والآخر للبنات وبعد أن يأخذ كل طفل وطفلة نصيبه من التمر ، يبدأ تحد من نوع آخر بين الأطفال الأكبر سنًا منا ، وهو ما كان يعرف بتحدي (دق الرقبة) ، وفيه يقوم أحد الأطفال أو المتصدق نفسه برمي تمرة في الهواء ، ثم يبدأ الأطفال في انتظارها كل يحاول أن يحصل عليها ويسجل انتصارا رمزيًا ومعنويًا على أقرانه الآخرين، وقبل أن تلامس التمرة الأرض يبدأ العراك بالأيدي والأرجل في مشهد يذكرك بكرة القدم الأمريكية ، في الغالب تكون التمرة من نصيب الأكثر بسطة في الطول والعرض .. بالنسبة لي لم أكن أميل إلى مثل هذا النوع من التحديات ، فضآلة جسمي وقصر قامتي كانتا تحدان من طموحي في أن أشارك في هذه المنافسة القوية التي قد لا تُحمد عقباها على الضعفاء أمثالي .
قبل الأذان بوقت كاف ، نكون في البيت ويكلف والدي أحدنا لسماع الأذان من النافذة وخاصة أن مكبر الصوت كان يعمل مرة ومرات يصاب بجلطة فنية تمنعه من النطق .
يحين الأذان ونتناول ما لذ وطاب من الطعام والشراب ، والابتسامة لا تفارق والدي ، وهو يرى السفرة الرمضانية وقد أصبحت مصدر سعادتنا ومدعاة شغفنا برمضان وأجوائه الجميلة .
بعد الصلاة نتسمر خلف المذياع ، كونها كانت عادة قبل التلفزيون وحضوره الجديد ، فيبدأ أبي في تحريك المؤشر بين الإذاعات حتى يطل علينا الفنان العظيم (عبد العزيز الهزاع ) في يومياته الشهيرة أم حديجان ،
كان هذا المسلسل بالنسبة لنا منتهى الترف الدرامي والكوميدي ، كان ضحك والدي يزيد من مستوى الضحكات وتسارعها في فضاء المنزل العتيق الذي كانت تشاركنا فيه شويهاتنا، ويبدو أنها كانت تعيش ذات الأجواء الفرائحية التي كنا نعيشها في تلك الأيام الجميلة .
رمضان في القرية سابقًا، كان صورة من صور الجمال والتكافل والنقاء ، كانت البساطة سائدة بين الناس وكان هذا الشهر المبارك يزيد من العدالة الاجتماعية بين الناس فيوحدهم شعورًا وخشوعًا قبل أن يوحدهم مأكلًا ومشربًا ، ويزيد من أواصر محبتهم وتعاونهم للتغلب على الحياة ومصاعبها المستجدة ومشقاتها المختلفة .
** **
- علي المطوع