الفن بكل أشكاله بما فيها الأدب والشعر هو منتج محلي. يستمد عالميته من محليته، وعموميته من خصوصيته. كلما حاكى ذات المبدع بكل خصوصيتها كلما حاكى الآخر بمصداقية تخترق نفس وروح هذا الآخر بلا إرادة.
لذلك فإن وقود الفنون والآداب هو حياة الناس بكل تفاصيلها اليومية المعاشة، ومتى ما ابتعد عن هذا الإطار فإن هذا الأدب سيتحول إلى صناعة إنسانية واعية لا تلمس الروح.
والمتتبع للممارسة الشعرية العربية الفصحوية سيلاحظ وبشكل مباشر بأن ثمة قطيعة كبيرة وحادة حدثت في العقود الخمسة الأخيرة ما بين القصيدة الشعرية الفصيحة وما بين المتلقي العربي الذي تدعي أنها تحاكيه وتخاطبه. بالشكل الذي تحولت معه هذه القصيدة من منتج حياتي يتداوله الناس (كما يفترض بها) إلى منتج نخبوي يتم تداوله في الصالونات والندوات والمجالس المغلقة التي لا يعلم الناس عنها شيئاً وليس لديهم رغبة بأن يعلموا. (والحديث هنا عن السمة الغالبة للممارسة والتي لا تمنع وجود تجارب شعرية مضيئة).
ولمحاولة فهم هذه الظاهرة غير السوية برأيي، ولكون الشعر منتج حياتي يومي تحكم إنتاجه الظروف المعيشية المحيطة به، فإنه لابد لنا من دراسة الحالة المجتمعية والمعيشية والفكرية والثقافية والسياسية التي أدّت لتحويل القصيدة من إطارها الشعبي إلى النخبوي بشكل سريع لا يتناسب وحركة الفكر والمعيشة وثقافة المجتمع.
وسأتناول من خلال هذا الطرح لأهم ثلاثة عوامل أعتقد برأيي الشخصي أنها ساهمت في هذا التحوّل، وهي: صعود اليسار العربي، تقديم التنظير والنقد على المنتج الشعري، الدوافع الشخصية للشاعر وبحثه عن النخبوية المجتمعية.
أولاً: صعود اليسار العربي. صعود التيارات اليسارية العربية من قومية وشيوعية واشتراكية وغيرها وتحكّمها بالمشهد العربي لم يكن في الجانب السياسي فقط، وإنما كان في الجانب الثقافي بشكل أكبر برأيي. فقد مارست الأذرع الثقافية والأدبية لهذه التيارات اندفاعا محموماً نحو الغرب على عكس شعاراتها السياسية، فحاولت أن تصنع قطيعة كاملة مع التراث وأن تغرق في الفكر الغربي الذي انبهرت به بطريقة ملتوية أسمتها التقدمية الفكرية (كما هو الحال بالتقدمية السياسية الثورية كما كانت تطلق نفسها). استحضرت أولا الملحمة الشعرية الغربية فأحضرت أوزيس ورميو ... الخ واسقطت ما يقابلها من الموروث العربي في الصورة الشعرية والأدبية. وانتقلت إلى البناء اللغوي فكسرت البناء العمودي للقصيدة العربية لكونه يمثّل قيداً لغوياً لا حاجة له كما ادعت، لتقوم لاحقاً بكسر القافية ثم الوزن وتتعداه إلى المضمون وطلسمته فتحولت معه القصيدة إلى نص منثور لا يجمعه جرس موسيقي ولا يقرّبه إسقاط فكري أو فلسفي قد يلتقطه المتلقي.
لقد سيطر اليسار العربي (الذي كان مبهوراً ومندفعا نحو المنتج الثقافي للغرب الذي يدعي حربه معه) ولعقود طويلة على المنابر الثقافية والإعلامية العربية بشكل كبير وكاسح مارس من خلالها محاولته الحثيثة لقطع الصلة مع التراث بكل ما يستطيع، ولكونه واجه حربا كبيرة لا يستطيع القيام بها فيما يخص الموروث الديني وبعض العادات والقيم المجتمعية، فإنه اتجه نحو الأدب والشعر بالتحديد ومارس تغريبها بطريقته ليساهم مع العوامل الأخرى في صناعة هذه القطيعة الحادة والغياب شبه الكامل للقصيدة العربية الفصيحة عن مجالس الناس ومسامراتهم وقفشاتهم كما يفترض بها أن تكون.
أنا لست ضد التغيير والتطوير بل على العكس تماماً، فأنا محرضّ عليه دائماً، مع الأخذ بأن الأدب ليس منتجاً إنسانياً معرفياً يمكن استيراده وتوطينه كما هو الحال في المعارف التجريبية، وإنما هو منتج إنساني روحاني يتفاعل من خلاله الإنسان مع بيئته وطرائق معيشته وظروف حياته الخاصة التي لا يمكن أن تتشابه مع حياة مجتمع آخر بشكل مطلق ليقوم باستيراده بشكل مطلق. وسأتناول في المقال القادم بقية العوامل التي ساهمت بخلق هذه القطيعة كما أراها.
** **
- تركي رويع