«فاقد الشيء لا يعطيه» ليست ثابتة ومنطبقة على الكل بل بعض البشر يفقد ويعطي أكثر مما لديه. هو فقد أمه وهو صغير لم ينطق باسمها ولم يذق حتى حليبها ومع ذلك عاطفته كانت طاغية أحبنا بشدة وأحب أقاربه ومعارفه لم أسمع منه يوما ذمًا أو شتمًا أو حتى انتقادًا لشخص لم يتفق معه, كان محبًا للكل بشوشًا معهم. كان رمزًا للحب والسلام والطهر والأمان.
لم يتعلم بمدارس ولكنه لقننا ونحن صغار أقوى أنواع الدروس في الحياة, كبرنا ونحن نسير على نهجه رغم أنه فارقنا منذ زمن طويل كنا صغارًا أكبرنا لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها وأصغرنا ذو عامين فقط لا يذكر حتى ملامح وجهه ولا عبق رائحته ولا حتى لمساته الحانية.
أتذكر عندما كنت ألعب في فناء دارنا الخارجي لم أتجاوز الخامسة من عمري كان كعادته يستلقي متأملاً السماء وبجانبه مذياعه الصغير وجريدته اليومية ونظارة القراءة التي ما زالت تفاصيلها عالقة بذاكرتي. همس لي: اقتربي, اقتربت منه. باغتني بسؤال مفاجئ هل ترين هذه النجمة في السماء؟ وأشار بإصبعه التفت إليه ببراءة الطفولة قلت أي واحدة؟ النجوم كثيرة لا أستطيع. أجابني بحزم: لا, النجوم كثيرة لكن تلك النجمة مختلفة إنها الأجمل فهي تلمع وذات بريق خاص تظهر مرة كل عام وعند ظهورها تحمل البشائر للناس إنها بعيدة جدًا أبعد من بقية النجوم ولكنها رائعة, أتعرفين ما اسمها؟ سكت، أجاب بسرعة: جوزاء. لم أستوعب تلك اللحظة مغزاه ولم أفهمه وكان هو متأكدًا من ذلك مثل تأكده من أنه غرس هذه اللحظة بتفاصيلها في ذاكرتي.
رحل أبي ولم أكمل سن العاشرة من عمري. رحل أبي وترك تلك اللحظة ولحظات أخرى كثيرة في ذاكرتي. وأكملت والدتي -حفظها الله- مشواره فلم تدخر جهدًا في تربيتنا (جزاها الله خير الجزاء). كبرت وبقيت اللحظة وفهمت المقصد. نعم فهمت يا أبي ما أخفته كلماتك بتلك اللحظة فهمت أن الإنسان ليس بجمال اسمه بل بجمال صنعه. علمت أن أفعالنا تصنع وتحفر أسماءنا.
في ذكرى رحيلك الثانية والثلاثين لا أملك إلا أن أدعو لك بالرحمة والمغفرة الواسعة وبجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.
يا صاحب الروح الطاهرة والابتسامة العذبة والوجه البشوش. يا من علمتني وإخوتي أن لا نخشى شيئًا ما دمنا لا نخالف ديننا ومبادئنا. يا من علمتنا أن الانكسارات والعثرات تصنع منا شخصًا أقوى.
رحلت وما زلت بكل صعوبة أواجهها في حياتي أفكر كيف ستحلها لو كنت مكاني. آمل أنني وفقت وإخوتي ولو برد شيء بسيط لك ولوالدتنا العظيمة التي علمتنا الصبر وتقديم حسن النية مع الكل.
رحمك الله ورحم جميع الأموات من آباء المسلمين وحفظ من بقي منهم. ورزق من كان أبواه على قيد الحياة برهما.
دمتم بصحة وسلام
** **
- جوزاء التميمي