الرياض - بـ«الجزيرة»:
يؤكد الخبراء وذوو الاختصاص أن الأوقاف أحد أهم الروافد الضرورية لتحقيق رؤية المملكة العربية السعودية 2030 باعتباره شريكًا أساسيًّا في التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع.
وأسهمت الأوقاف -باعتبارها صدقة جارية- في تنمية الرعاية الاجتماعية، وتحقيق الضمان الاجتماعي في المجتمعات الإسلامية.. ولم يخلُ بلد من البلدان من تقديم العون والمساعدة للمسلمين، ومن إنجاز مشروعات متنوعة، تضافرت فيها المبادرات الجماعية مع الفردية والرسمية لتحقيق أهداف الوقف المطلوبة.
وفي الآونة الأخيرة ضعف دور الوقف، واضمحل وتناثر، ولم يؤدِّ دوره بالشكل الصحيح في المجتمع نتيجة عوامل وأسباب عدة؛ إذ اقتصر دوره على مجالات معينة مكرورة. وفي ظل الحاجة إلى فتح آفاق جديدة لتغطية الاحتياجات الفعلية، كمساعدة الفقراء والأيتام والمحتاجين وغيرها، كيف يمكن للوقف أن يسهم في خدمة تلك الفئات نظرًا إلى ما يمثله من دعامة اقتصادية وسياج واقٍ لهذه الفئات المحتاجة؟
«الجزيرة» استطلعت رؤى عدد من الخبراء والمختصين حيال تلك القضية المهمة.. فماذا قالوا؟!
الترغيب والتوجيه
يؤكد الدكتور طلال بن سليمان الدوسري رئيس قسم الفقه في جامعة القصيم أن المتابع يلحظ ارتفاع وتيرة العناية بالأوقاف في المجتمع السعودي - ولله الحمد - بشكل ملحوظ، سواء على سبيل التنظير والدراسة، أو على سبيل التنفيذ والممارسة، ومع ذلك فلا يزال المجتمع بحاجة إلى مزيد من الأوقاف التي تسهم في تغطية جميع مجالات احتياجاته بشكل جيد. ولتحقيق هذا الهدف أعتقد أننا بحاجة إلى بذل مزيد من الجهد من المؤسسات والمراكز ذات العلاقة في توجيه التجار إلى الوقف، وترغيبهم به، وإرشادهم إلى مجالات الاحتياج التي ينبغي أن توجَّه إليها الأوقاف انطلاقًا من الحافز الديني الذي هو من أعظم الحوافز لمجتمعنا المتسم بالتدين على البذل والعطاء، إضافة إلى مساهمة تلك الجهات في تسهيل إجراءاته وتوضيحها. كما أننا بحاجة إلى ألا نقصر الترغيب في الوقف على الأثرياء والموسرين فحسب، بل يرغب في ذلك عموم الناس، كل بما يستطيع عبر قيام الجمعيات الخيرية ونحوها من الجهات المعتمدة ذات العلاقة بإنشاء أوقاف نوعية، وفتح باب المساهمة فيها لعموم الناس.
كما أن الجهات الرسمية ذات العلاقة يمكن أن تسهم في إنماء الأوقاف عبر تسهيل الإجراءات، وتقديم الامتيازات للأوقاف والموقفين، إلى غير ذلك مما يمكنها القيام به.
المسابقة للخير
ويشير المهندس محمد بن طلال عرب عضو اللجنة الوطنية للأوقاف إلى أن الوقف يعد دعامة اقتصادية، وسياجًا واقيًا للفقراء والأيتام والأرامل والمحتاجين الذين تعصف بهم التقلبات الاقتصادية. والسعوديون سباقون في ذلك من خلال مبادرة كثير من الميسورين في مجتمعنا بتبني مبادرات وقفية مميزة، مثل: جمعيات البر، وجمعيات توفير الغذاء كإطعام وإكرام الطعام، وجمعيات توفير المسكن كمأوى وبنيان، وجمعيات رعاية الأيتام كإنسان وبناء وغيرها، وكذلك من خلال المبادرات التي تجاوزت المساعدة المباشرة التي قد تسبب حرجًا لأهل العوز إلى إطلاق مبادرات تسهم في إعانة المتعففين من المحتاجين دون إظهارهم كمبادرة تسجيل الأسر في الضمان الاجتماعي، ومبادرة كنف الوقفية.. بل إن مبادرة السعوديين عانقت عنان السماء حين نقلت المحتاجين من جهة الرعاية والعناية إلى الاكتفاء بل الإنتاج.. والنموذج العملاق الذي يبرز أمامنا في هذا المنحنى هو مبادرة جنى الوقفية التي أقرضت ما يزيد على مئة مليون ريال لأهل العوز الراغبين في الاعتماد على أنفسهم، والخروج من زاوية الحاجة المؤلمة. وكل ما ذكرناه هو لمحة بسيطة عن بعض الجهود الوقفية البارزة. ولو أمعنا النظر قليلاً لأذهلتنا كمية المبادرات الوقفية المتأصلة في أهلنا، ولعلمنا كيف أن شعبنا وأهل بلدنا يستحقون كل تكريم وتقدير ودعاء.
دعم حكومي
ويكشف الدكتور ماجد بن عبدالله الهديان المستشار القانوني عن أهمية الوقف في التنمية الاجتماعية والاقتصادية في أنها تتبلور من جانب ديني، وجانب آخر من خلال علاقة الإنسان بمحيطه الاجتماعي الذي يحفزه نحو البذل والعطاء في سبيل توفير حياة كريمة، ليس لذوي العوز والحاجة فحسب، بل إلى مختلف فئات المجتمع، ومن هذه القيم السامية التي حفزت أهل البر والإحسان على بذل المال بسخاء في أوقاف متنوعة، تسهم إيجابًا في تحريك الاقتصاد، وأصبح اللجوء إلى الأوقاف لا محالة واقعًا ملموسًا، تجاوز الصورة التقليدية كالعقارات؛ إذ تمدد ليشمل مناشط متنوعة، تلامس احتياجات أفراد المجتمع، خاصة الأسر التي تواجه صعوبة الوفاء بمتطلبات المعيشة اليومية؛ إذ نجد الأوقاف التي تهتم بإيجاد الحياة الكريمة، وكل ما من شأنه العناية بالإنسان من حيث طعامه، سكنه، تعليمه وصحته، وتوفير فرص العمل ليحقق له حياة كريمة، تتلاءم مع متطلبات المعيشة اليومية. فمن خلال الأوقاف يتم أداء دور حيوي ومهم في تكريس قيم التكافل بين أفراد المجتمع، وهذا يجعل الأوقاف تكتسي أهميتها الاقتصادية والاجتماعية وسمو مقاصدها في تحقيق التنمية المستدامة، وإشراكها في برامج التنمية البشرية ذات الصلة بالتعليم والتدريب والتأهيل. وبطبيعة الحال، فالأمر يتطلب إيجاد دعم حكومي نحو تيسير الإجراءات اللازمة لإقامة الأوقاف، وحسن إدارتها، وإيجاد قنوات استثمارية تواكب التطور الذي يعيشه أفراد المجتمع.
ثقافة الوقف
ويقول الدكتور إبراهيم بن محمد الحسون الأستاذ المساعد بكلية الاقتصاد والإدارة بجامعة القصيم: لا شك في أن الوقف يمثل رافدًا مهمًّا لهذه الطبقات في المجتمع، وهو أول ما يتناوله الوقف لسد احتياجاتهم من خلال الجمعيات الخيرية التي تتولى هذه الأوقاف التي لديها قوائم بالمحتاجين من هذه الفئات، والصرف على الأيتام وعلى المحتاجين للعلاج والتعليم، أو توفير مساكن ملائمة لهم.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أهمية نشر ثقافة الوقف من خلال الحض والحث على الوقف، وتعريف وتوعية أصحاب رؤوس الأموال بأهمية الوقف، وحتى أصحاب الدخول المحدودة عن طريق صناديق وقفية؛ إذ لا يلزم أن يكون الواقف شخصًا واحدًا.
التكامل الاجتماعي
ويتفق الشيخ راجس بن أحمد الدوسري نائب رئيس لجنة الأوقاف بالغرفة التجارية الصناعية بالرياض على أن الوقف دعامة اقتصادية وسياج واقٍ للفقراء والأيتام والأرامل والمحتاجين الذين تعصف بهم التقلبات الاقتصادية.. وقد قطعنا فيه أشواطًا طويلة في بلادنا الحبيبة، وضرب السعوديون أروع الأمثلة في التكامل الاجتماعي عبر مبادرتهم في شتى المجالات الوقفية التي تسهم في تعزيز النسيج الاجتماعي، ورعاية المعوزين، وتنمية المحتاجين، ومد يد العون لمن يحتاج إليه على مستوى فردي أو مؤسسي أو حكومي أو غيره.
فالمبادرات الوقفية طالت أغلب مناحي الحياة في بلادنا، والقائمة منها على خدمة المحتاجين يصعب حصرها، وهي منتشرة في شتى أرجاء بلادنا، وحجمها كبير، وينمو باطراد، بل إن مبادرة السعوديين تجاوزت ذلك إلى إنشاء أوقاف، تهدف إلى دعم هذه المبادرات الوقفية الاجتماعية ماليًّا.. وعدد هذه الأوقاف كبير ومميز.
دور تنموي
ويشير د. عمر بن صالح المحيسن عضو هيئة التدريس بقسم الاقتصاد الإسلامي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة إلى أن الوقف أثبت عبر مَر العصور دوره التنموي المهم في إصلاح المجتمعات، وسد حاجاتهم. وتسعى المملكة العربية السعودية وفق رؤية 1452هـ (2030م) إلى توسيع قاعدة القطاع الثالث (غير الربحي)، وذلك بمساهمته في الناتج المحلي الإجمالي مما كان عليه سابقًا 1 % إلى ما هو مطلوب وفق الرؤية 6 %، وزيادة عدد المتطوعين من 11 ألفًا إلى مليون متطوع. والمأمول حث القطاعات الاقتصادية الكبرى من المؤسسات المالية، وشركات التأمين وصناديق التقاعد، وغيرها من الأوعية المالية ذات الأصول الضخمة، على تخصيص ولو نسبة يسيرة من الأرباح، وتوجيهها إلى صندوق رأس مال جريء، يدعم الفقراء والأيتام والأرامل والمحتاجين الذين تعصف بهم التقلبات الاقتصادية، بالتنسيق مع الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة.
شراكات فاعلة
ويؤكد المهندس علي بن عبدالله آل محسن مؤسس ورئيس مركز إيجاد للاستثمار بالشركات الناشئة أن الأوقاف ستحقق أثرها الفاعل في المجتمع إذا تبنت إدارتها مبدأ التكامل والشراكة مع الأطراف الأخرى في المجتمع. وعلى الرغم من أن للوقف دورًا خيريًّا، وآخر اقتصاديًّا بهدف الاستدامة، إلا أن ذلك لا يعني أن يقوم فريق إدارة الوقف بهذه المهام مباشرة، وإنما من خلال شراكات فاعلة مع الجهات الخيرية المتخصصة من جهة، والكيانات التجارية المتخصصة من جهة أخرى.