جملة تُقْرأ أو نسمع مجردة؛ تعد جملة غير مفيدة، بيد أنها لم تقل بداية هكذا « البن المسكوب» وصارت مثلاً يقال على مواساة أو ونبذ ندم على ما لا ينفع معه الندم تُقال عن حالة وقعت؛ فعل ترتب عليه؛ أو سلوك خاطئ أو زلة لسان أو رغمًا عن إرادة البشر، وصارت في عداد القدر المقدور، ويترتب عليه أثر يستدعي الأسى، وينبثق عنه «ليت» أو كأن يصدر من عالِم أو مسؤول أو أي شخصية عامة، زلة لسان، أو اتخاذ قرار، وجلب عليه نقمة المتضررين، أو تصرف تسبب في تشتت شمل أسرة، أو تعطل مصنع بفعل خطأ ما كان أن يقع عمدًا ولكنه وقع، وسرح بسببه عدد غير يسير من عمال، وصاروا يقتاتون على تعويض أو نزر من تأمين اجتماعي، صارت مضرب مثل، تستخدم مجازًا على أن ما فات فات، وما قيل قد قيل، وما تم فعله انتهى، وعواقبه قد وقعت وانتهى معه مفاعيل بكاء أو ندم وحسرة، ودموع، ولا تجدي معه معالجات، إنما بجب النظر للمستقبل، وكيف يمكن تلافي تكراره، بوضع خطط بديلة تبقي على الحد الأدنى من سير العمل أو من تسيير أمور ضرورية.
مراد المقولة، التي صارت مثلاً، لا يفهم مرادها ودلالتها؛ ممن لم يسبق أن أطلع على سياقها بداية، إِذ لا علم له بالحالة التي تطلبت مقاربة ومواساة من أطلقها من فورها، وصارت تستخدم كثيرًا للاستشهاد بها بحدث أو تصرف أو سواهما قياسًا على مدعاة من قالها بداية لأول وهلة، حتى يفهمها ومتى كان كذلك، فهم مدلولها من تُقال له؛ فصار استخدامها شائعًا حتى لو كان الفعل ليس له علاقة بلبن مسكوب كما يقال: «وافق شنٌ طبقه» تنزل على ما شابه حالهما.
قبل أن أسوق لكم كيف ولماذا قيلت؛ جملة مفيدة مكتملة الشروط، أسرد قصة من قيلت لها تماهيًا من وحي المشهد؛ سياقًه ومدلوله؛ أول ما قيلت لفتاة اسمها «فاطمة»: ابتاعت لبنًا من محل مجاورٍ لبيتها، وأثناء سيرها اندلق الإناء، من يد مرتعشة، ضامتها الفاقة، فتوسد الإناء التراب، وسلك اللبن التراب فسار أثرًا بعد عين.
جلست جواره تبكي بحسرة، دموعها تسلقت وجنتيها، محياها كان مصفرًا، ظلت في حالة لا تغبط عليها، ولسان حالها؛ من أين ستتدبر دراهم لابتياع لبن بديل، وماذا تقول لأمها وإخوتها يتضورون جوعًا، ينتظرون عودتها بفارغ الصبر طفل في المهد جف معين عطائه ومن جاوزوا الفطام من المحال أن يزدردوا خبزًا ناشفًا، والدرهم التي ذهبت مع الريح كل ما بقي لديها.
تضخمت الفاقة بعد موت والدهم، مع الشهد الذي تتصوره حال دخولها خالية الوفاض؛ ماثل أمامها، أقفر معين تفكيرها وضرب تدبيرها في مقتل، بحسبانها تسببت في ضياع بهجة كانت ستعم إخوتها حال دخولها البيت تحمل لبنًا، ضاع أملها؛ أن تظل من اليوم فصاعدًا، ملء السمع والبصر، بشارة خيرٍ بعيونهم، أما وقد غدا حُلُمًا، سرحت تتصور سحناتهم صبغها الجوع بظلاله سوداء فاكفهرت، الصغار لا يبحثون عن تفسير ما آل إليه لبنهم الموعود، وليسوا في وارد طرح أسئلة ممعنة في التفاصيل حتى تُحَضِرَ جوابًا مقنعًا يعيد لها نزرًا من حظوتها، صعب إقناعهم بغير ما يسد فجوة غائرة تروم من يطفئ أوار مَعِداتهم، تسكت أمعاءهم، وترطب جفاف حلوقهم.
جاءها فرجٌ معنوي، ممن لا يملك سوى فِكر وبديهة حاضرة، وحكمة ثمينة لا تقاس بمال، رمقها رجل حكيم من بعد تفترش الأرض؛ لم يملك ما ينهي أزمتها ويردم كآبتها، لتعوض به لبنها المسكوب، فالفلاسفة والمبدعون والأدباء ومن نحا نحوهم، جُلَهم تحت خط الفقر فناداها ليُسرِّيَ عنها: «يا فاطمة: ماذا تنتظرين من بكائك؟ أترجع دموع عينيك هذا اللبن الذي سكب على الأرض؟. وعندها فهمت الحكمة: (لا تبك على اللبن المسكوب).
** **
- محمد المنصور الحازمي