«الجزيرة» - محمد المرزوقي / عدسة - فتحي كالي والتهامي عبدالرحيم:
في ليلة استثنائية، بنادي الرياض الأدبي الثقافي، وضمن ندوة أقامها «منتدى الشباب الإبداعي»، جاءت أمسية الموسم الثقافي، التي حل ضيفها سعادة الأستاذ خالد بن حمد المالك، رئيس تحرير صحيفة الجزيرة، رئيس هيئة الصحفيين السعوديين، ورئيس اتحاد الصحافة الخليجية، حيث استهل مقدم الأمسية عبدالرحمن السعد، الأمسية بتقديم سيرة لضيفها، مستعرضاً مسيرته المهنية مع الصحافة، وريادته في فضاءاتها، محلياً وخليجياً وعربياً، وما أسهم به من موقعه القيادي في مؤسسة الجزيرة الصحفية، من تطوير صحفي، في مختلف خطوط إنتاج الصحيفة، للوصول بـ«الجزيرة» إلى أن تكون واحدة من أبرز المؤسسات الصحفية عربياً، وما قدمه ويقدمه من تطوير دائم للمحتوى الصحفي مضموناً وشكلاً، إلى جانب ما يمتلكه من قلم صحفي يتسم مداده من عمق معرفي، ورصانة معرفية، ورؤية مهنية، إلى جانب (13) كرسيا لصحيفة «الجزيرة»، لدعم مسيرة للبحث العلمي، في ثلاث عشرة جامعة، إضافة إلى إصداره (15) كتاباً، تناغمت مع مسيرته لـ(50) عاماً في سيرة.. ومسيرة مع الكلمة الصحفية، التي نال عليها العديد من الجوائز محلياً وخليجياً وعربياً، إلى جانب عضويته في العديد من المؤسسات العلمية، والهيئات الاجتماعية، والجهات الخيرية، إلى جانب تمثيله للعديد من البرامج الوطنية على المستوى العربي والإقليمي، ما جعل من المالك علماً من أعلام الصحافة وروادها في الوطن العربي، وجعله من مسيرته محل الاحتفاء والتقدير من العديد من الجهات الرسمية، والقطاع الخاص، والمؤسسات الثقافية والأدبية والعلمية التي بادرت بتكريمهن تقديراً منها واحتفاء بإنجازات خمسة عقود، جعلت من تجربة المالك مثالاً وطنياً، ونموذجاً يحتذى بسيرته، وريادة في مسيرته، الكثير والكثير مما يستحق أن يعرضه من تجربته للشباب.
لن أكون استثناءً
وقد استهل المالك حديثه قائلاً: لا تتوقعوا مني أن أقول لكم شيئاً كثيراً، أو أفصح أمامكم عما أعتبره مؤجلاً إلى حين، أو أن أتحدث أمامكم عن شيء يجب عدم البوح فيه، فهناك أسرار يفضل المرء أن يحتفظ بها لنفسه، وأخرى يتحين عامل الوقت المناسب للكشف عنها، فكل من كتب عن تجربته في الحياة، هنا وفي جميع دول العالم يركز على صناعة البطل، عن الإيجابيات، والأعمال المقدرة، والمساهمات الجديرة بالثناء، لكن أحدًا لم يتحدث عن الجانب الآخر من تجاربه، عن أخطائه، وفشله، -وإن كان ذلك بنسب مختلفة- والسبب في جزء منه أن هناك محظورات تحول دون أن يكشف المرء عن الخفايا، بعضها لأسباب شخصية، وأخرى يحكمها المناخ العام.. وأنا في هذه الليلة وأمامكم في هذه الأمسية، لن أكون استثناءً، فأقول لكم ما أعتقد أنه خارج قناعاتي، أو يخالف ما اعتدتم عليه عند الآخرين، فأشرككم بكل شيء يحوم حول تجربة حياتية متواضعة مررت بها.
طفولتي عسكرية
وقال المالك: في طفولتي المبكرة، وجدتني طالبًا في المدرسة العسكرية، دون أخذ موافقتي، فقد افتتحت المدرسة في مدينة الرس عام 1373هـ، وكان والدي على رأس المطالبين بها حتى تم افتتاحها، ولم يكن جائزًا أن يسعى الوالد إلى افتتاحها، ثم لا يتقدم الصفوف في إلحاق بعض أبنائه فيها، وهذا ما حدث، فقد كنت مع ثلاثة من إخواني في صدر قائمة المسجلين بها، وكان عمري آنذاك- لا يتجاوز الثمانية أعوام، والمرحلة التي كنت أدرس فيها هي السنة الثالثة من المرحلة الابتدائية.. قضيت في العسكرية طالبًا متنقلاً بين مدن الرس وبريدة والرياض على التوالي في فترة تحصيلي الدراسي فيها، منهياً المرحلة المتوسطة من دراستي، وتعلمت خلال هذه السنوات السبع شيئاً من الانضباط، والحزم والجدية، وتقبل التعليمات، دون أن يسمح لي عمري، أو النظام العسكري بإجراء عملية فرز أو خيار لما هو مقبول، أو لم يكن هناك حاجة إليه.
على عتبات «50» عاماً
وعن عتبات خمسة عقود مع الصحافة، مضى المالك قائلاً: تركت المدرسة العسكرية بحصولي على شهادة الكفاءة المتوسطة كما أسلفت، وأكملت دراستي الثانوية بمدرسة اليمامة، وكان أستاذنا في اللغة العربية من أبناء فلسطين المحتلة واسمه محمد العبد، وهو ممن كانوا يكتبون في مجلة اليمامة ثم في صحيفة الرياض بعد صدورها، وظل الرجل يحفز طلاب الفصل ويحثهم على الكتابة في الصحف، وقد شجعني ذلك لأن أطرق باب صحيفة الرياض، فإذا بي أجد ما أثار استغرابي ودهشتي معًا، فقد كان المقر غرفةً واحدةً شديدة التواضع، يجلس في صدارتها رئيس التحرير الأستاذ عمران محمد العمران، وفي زاوية منها الأستاذ أحمد بهجت (مصري الجنسية)، وشخص ثالث لعله المصحح أو المحرر، فعرضت على رئيس التحرير أن أكون محررًا أزود الصحيفة بالأخبار.. لكن وجهة نظر الأستاذ عمران كانت أن أعمل إلى جانبه مصححًا للغة العربية في الصحيفة، ربما أنه أحسن الظن بقدراتي حين علم بأنني أدرس في مدرسة اليمامة بالقسم الأدبي فيها، فطلبت منه إعطائي مهلةً للتفكير، وذلك تأدبًا مني لا قناعة بما عرضه عليّ، إذ إن ما عرضه كان أكبر من قدراتي، ومن حسن ظنه بإمكاناتي.
في مضمار الرياضة
ومضى المالك قائلاً: في فترة زمنية قصيرة بين لقائي برئيس تحرير صحيفة الرياض، ولقاء آخر تم مصادفةً ومن دون تخطيط مسبق بالأستاذ فيصل الشهيل، وكان يعمل مديراً عاماً لمؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر، فقد عرض عليّ أن أتولى الإشراف على الصفحة الرياضية بصحيفة الجزيرة، وكنت يومها أكتب بعض المقالات الرياضية في بعض الصحف ومن بينها صحيفة الجزيرة، فلم أتردد في قبول العرض. وفي أول زيارة لي لمكتب صحيفة الجزيرة المجاور لصحيفة الرياض في المطابع التي كانت تطبع صحف: الرياض والجزيرة والدعوة واليمامة معاً.. فوجئت أيضاً بأن مكتب صحيفة الجزيرة لا يضم هو الآخر سوى الخطاط ورئيس التحرير بالنيابة ومحرر ومصحح يحضرون ليلة صدور الصحيفة أسبوعياً مساء كل يوم اثنين، أي أن الانطباع الذي كان يشغل ذهني عن إمبراطوريات الصحافة زال مع أول دخول لي إلى مكتبي الصحيفتين المتجاورتين في مبنًى واحد.
بين الوسم والرسم
وفي سياق صورة «إمبراطوريات» الصحافة، قال المالك: هذه الهالة التي كانت تكرسها الصحف رغم محتواها المتواضع، وانتشارها المحدود في ذهن إعلامي قادم ليكون رئيساً للتحرير في وقت لاحق، حركت الرغبة لديه ليحصر مستقبله بها، خاصةً بعد أن عاش أجواءها عن قرب، وتعرف على ما كانت تخفيه صفحاتها عن أمور يريد أن يلم بها، ويتعرف عليها، لكن لم يكن في حساباته أن يتبوأ رئاسة التحرير ذات يوم، وأن يقضي نصف قرن من عمره في بلاطها، وأن يحول الصحيفة من أسبوعية إلى يومية بعد تسع سنوات من الانتظار، وأن يتبنى إصدار صحيفة يومية مسائية، وأن تكون فترة قيادته لصحيفة الجزيرة بوابةً لظهور الكفاءات الإعلامية السعودية المتميزة للعمل بها، ومن ثم ظهور الفرص أمامها للعمل في قيادة صحف محلية وعربية، ولكن هذا تحقق، وكله بتوفيق من الله أولاً، ثم وقوف من قدروا عملي وقدراتي بأكثر مما كنت أتوقع فساعدوني ودعموني، كي تبلغ صحيفتا الجزيرة والمسائية -قبل احتجابها- ما بلغتاه من نجاح.
من قصص الصحافة
كما تحدث فارس الندوة، عن حكايات الصحافة، قائلاً: هناك قصص مثيرة سبقت تعييني رئيسًا لتحرير صحيفة الجزيرة في الفترة الأولى، فقد كان رئيس التحرير الأستاذ عبدالرحمن المعمر، على خلاف في وجهات النظر في إدارة الصحيفة مع مؤسسها الشيخ عبدالله بن خميس، وقد تصاعدت حدة الخلاف بينهما إلى أن وصل إلى حد يتعذر الجمع في العمل بينهما، في هذه الفترة أوكل مجلس الإدارة للزميل سليمان العيسى -رحمه الله- مهمة عمل رئيس التحرير بشكل مؤقت، فعبدالرحمن المعمر توقف عن العمل لكنه لم يستقل، غير أن سليمان فضل أن يقبل التكليف، من دون أن يباشر العمل، فسافر إلى أبها، وترك المهمة الملتهبة لي، وكانت أولى مهامي بتوجيه من مجلس الإدارة، إزالة اسم الأستاذ عبدالرحمن المعمر من صدر الصفحة الأولى في الصحيفة كرئيس لتحريرها، وكنت أعرف أن عبدالرحمن المعمر محارب كبير، ولن يقبل بمثل هذا التصرف -غير النظامي- أو يستسلم له فتركت اسمه كما هو، على أن تتم إزالته مع بدء طبع الصحيفة بحضوري، تجنباً لممارسته الضغط على إبقاء اسمه بما لا مصلحة لي في دخول هذا المعترك مع صديق وزميل، وعندما دارت المطابع، وأخذت مجموعةً من النسخ من دون اسمه بعد إزالته، وكان ذلك في آخر الليل، ومع اطمئناني بأن كل شيء قد تم كما تم الترتيب له، كانت المفاجأة في الصباح بأن عبدالرحمن المعمر أبلغ من الداخل بما تم، وحضر إلى المطابع فجراً بنفسه وألزمهم بإعادته، وأعيد بالفعل، وكان المعمر على علاقة وطيدة بالعاملين بالصحيفة الذين يدينون له بالولاء، فأبلغوه بما حدث في آخر الليل الطويل، ليجد رئيس وأعضاء مجلس الإدارة أنفسهم في لحظة اندهاش، فأمامهم طبعتان من الصحيفة؛ واحدة خالية من اسم رئيس التحرير عبدالرحمن المعمر، والأخرى يتصدر اسمه الثلاثي صفحتها الأولى.
ما وراء الحكايات
وأضاف المالك في هذا السياق قوله: هذا التصرف المخادع لم ينجح مع عبدالرحمن المعمر الذي تربطني به أقوى العلاقات والمحبة، لكنه تقبل إزالته فيما بعد عندما تمت المصالحة بين عبدالله بن خميس -رحمه الله- وعبدالرحمن المعمر، ومن ثم قدم استقالته برضاه من رئاسة التحرير كما فهمت -آنذاك-. وعندما شغر منصب رئيس التحرير، صادف وجود سجال رياضي بيني وبين عضو مجلس إدارة النادي الأهلي (الرياض الآن) الأستاذ عبدالعزيز العسكر على صفحات الجزيرة والدعوة، حيث كنت أشرف على صفحة الجزيرة الرياضية، بينما كان الزميل سليمان العيسى مسؤولاً عن صفحة الدعوة الرياضية، مما أثر على العلاقة بيني وبين سليمان، بسبب تبنيه مقالات العسكر التي يرد فيها على ما أنشره عنه في الجزيرة، فاختلت العلاقة القوية القائمة بيننا، مما جعلني أسمح لنفسي بأن أدخل معه منافساً على رئاسة تحرير صحيفة الجزيرة، حيث كان هو مرشحها الوحيد، وكان موقف أعضاء المؤسسة منقسماً إلى قسمين، أحدهما يرشح سليمان، والآخر يرى أنني الأجدر بالمنصب، وانتهى الترشيح بحصولي على الأكثرية من الأصوات، فاستقال سليمان من الجزيرة، حيث كان يعمل مذيعاً في التلفزيون ومحرراً للصفحة الرياضية بالدعوة إلى جانب عمله سكرتيراً لتحرير صحيفة الجزيرة.
لم أخسر صداقة الأستاذ عبدالرحمن المعمر بقيامي بإزالة اسمه من الصحيفة، فقد تفهم السبب، وحمل المسؤولية على من أصدر القرار بذلك، كما عادت علاقاتي مع سليمان العيسى -رحمه الله- إلى أكثر مما كانت عليه في حميميتها بعد استقالته بفترة قصيرة من العمل في صحيفة الجزيرة، إذ إنه رأى فيها منافسةً شريفة، ليس فيها كاسب أو خاسر، فهي مهنة المتاعب، والقرار رئيساً لتحرير صحيفة الجزيرة تم وفق التصويت الذي لم ينزع الكفاءة والمقدرة الإعلامية منه.
«الجزيرة» والريادة
ومضى رئيس التحرير الجزيرة قائلاً: كانت لـ(الجزيرة) أسبقية في الصدور قبل الرياض بعد صدور نظام المؤسسات الصحيفة، لكن الرياض بدأت الصدور يومياً، فيما ظلت الجزيرة تصدر مؤقتاً يوم الثلاثاء من كل أسبوع، مع أن الترخيص لها أن تكون صحيفةً يوميةً، وظلت تسع سنوات على هذه الحال، حتى وهي تسبق الرياض في امتلاك مقر ومطابع خاصة بها، وكان هذا يحد من نشاط مَن يعمل في الجزيرة، وكنت من بين هؤلاء، كما أن صدورها مرةً في الأسبوع، لا يجعل لها ذلك الأثر أمام صحيفة يومية تصدر من المطابع نفسها التي كانت تطبع فيها الصحيفتان، وقد عايشت هذا الأمر بمرارة على مدى سنوات الانتظار القاتل، وتحدثت وزملائي عنه بصوت عال على مدى تسع سنوات مع رؤساء التحرير الذين سبقوني، ومع أعضاء من مجلس الإدارة، غير أن التردد والتهيب والخوف تسيدوا الموقف، مما جعل صحيفة الرياض تغرد وحيدةً في مدينة الرياض، باستثناء يوم الصدور الأسبوعي لصحيفة الجزيرة.
أول «قرارات» الميل
وقال المالك في هذا السياق: كان أول قرار لي بعد شهور قليلة من صدور الموافقة الرسمية على ترشيح مؤسسة الجزيرة لأكون رئيساً لتحرير الصحيفة، أن تقدمت بطلب الموافقة على إصدار الصحيفة يومياً، وأكدت لهم قدرتنا على الصدور بإمكاناتنا البشرية والفنية والمالية المحدودة.. وقد لقي هذا الطلب التأييد من المدير العام -آنذاك- الأستاذ صالح العجروش -رحمه الله-، وفيما كانت المناقشات تجرى في الغرفة المغلقة خلال اجتماع مجلس الإدارة، كان الزملاء في الخارج ينتظرون، وكلهم أمل وشوق بأن يكون القرار لصالح الصدور اليومي، من دون تسويف أو تأجيل، فقد ملّوا من لغة التمهل، وعدم التسرع، وتأجيل القرار إلى أن يتم استكمال الإمكانات والمتطلبات إلى ما في ذلك من مبررات لم يكن أيّ من الزملاء مقتنعاً بها، وكانت البشرى لهم حين خرجت من الاجتماع لأعلن أمامهم عن موافقة مجلس الإدارة على الصدور اليومي.
«أم» المغامرات
وأضاف المالك: على الفور بدأت الاستعدادات، فمن جانبي فقد سافرت إلى لبنان وإلى السودان، ومصر لاختيار احتياجاتنا من العمالة والفنيين، وتصميم (اللوجو) -الشعار- وكتابة اسم الجزيرة من خلال الخطاط اللبناني الأشهر البابا، فيما انكب الزملاء في التخطيط لمرحلة الصدور، وتجهيز المواد المناسبة لهذه المغامرة الكبيرة التي ستعتمد على عدد من الزملاء لا يتجاوز ستة أشخاص، لكننا كنا نملك الحماس والرغبة والاستعداد للبدء من حيث انتهت الصحف الأخرى، رغم فارق الإمكانات بيننا وبينهم، وما هي إلا سنة واحدة، فإذا بالقراء والمعلنين والكتّاب والصحفيين الأبرز يتحولون إلى صحيفة الجزيرة، مستفيدين من مساحة الحرية في النشر غير الموجودة في كثير من الصحف المحلية، ما جعل الجزيرة تكون أول صحيفة تحقق أرباحاً وتوزعها على الملاك، ونسبة من هذه الأرباح توجه للصحفيين والعاملين فيها.
الصحافة و»مدرسة» سلمان
من جانب آخر، تحدث المالك عن جانب من سيرته الصحفية، وعلاقته بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- عندما كان أميراً للرياض، قائلاً: أستطيع القول إن الملك سلمان كان هو القارئ الأهم لصحيفة الجزيرة.. فالمعروف عن خادم الحرمين الشريفين متابعته الدقيقة لكل ما ينشر في الصحف، وإبداء الملاحظات دون أن يؤذي أحدًا. ومن ضمن هذه الملاحظات أنه سألني ذات يوم عندما كان أميرًا لمنطقة الرياض: «هل قرأت صحيفة الجزيرة اليوم قبل طباعتها؟».. وكان جوابي بـ»نعم». «وهل قرأت الصفحة الأولى تحديدًا؟» يسألني. وكان الجواب بـ»نعم» أيضًا. ثم طلب مني أن أعيد قراءتها، وأتصل به. وقد فعلت، لكني لم أجد فيها ما يلفت النظر؛ فأكدت له في اتصالي أني لم أجد ما أفسر به الهدف من تساؤلاته. فقال لي: «وهل قرأت بقية خبر تم نشره بالصفحة الأولى؟». فكان جوابي: «لقد غادرت مكتبي في منتصف الليل قبل وصول صفحة التتمات؛ فلم أطلع عليها». فطلب مني أن أقرأ بقية خبر الصفحة الأولى في صفحة التتمات، ثم أتصل به. قرأت تتمة الخبر، وإذا به معلومات كان ينبغي استبعادها؛ فشكرت الملك المثقف على متابعته قارئًا وناقدًا لصحيفة الجزيرة، ومن يومها أخذت قراراً بإلغاء صفحة التتمات، وأصبحت إلى اليوم تصدر من دون أن يكون هناك تتمة لخبر أو أيّ موضوع في الصحيفة.
ولـ»المسائية» قصصها
أما عن إصدار «المسائية» فقال المالك: مع تضخم العدد الذي بدأ يفيض عن حاجة صحيفة الجزيرة، من صحفيين وكتاب، جاءت الحاجة إلى التفكير بإصدار صحيفة مسائية يومية، وتحويل بعض صحفيي الجزيرة وكتّابها إلى الصحيفة الشقيقة، لكن قبل أن تصدر المسائية، كان هذا المشروع أول ما تبنيته أن يكون مشروعاً فرديًا أضم له معي رجل الأعمال صالح كامل، فقد عرضت عليه الفكرة واستحسنها، لكنه رأى أن آخذ رأي وزير الإعلام -آنذاك- الدكتور محمد عبده يماني -رحمه الله-، وهكذا فعلت فقد توجهت إلى معاليه وعرضت عليه الفكرة فاستحسنها، وسأل عن اسم الصحيفة المقترح إذا ما قدر أن تصدر موافقة بالترخيص لها، فقلت إنني أفكر في كلمة (الميزان)، وأن تصدر في اليوم الأول من الميزان، فقال إنه اسم جيد، وتوقيت الصدور مناسب أيضاً، وخرجت من عنده بانتظار أن يصلني الرد بالموافقة أو الرفض، ولما تأخر ذلك، وصادف أن عقدت القمة الخليجية بالرياض، وصدر عن الجزيرة ملحق يومي مسائي لتغطية فعاليات المؤتمر، فقد رأيت أن يستمر الملحق بالصدور، مع التدرج في فك ارتباطه بصحيفة الجزيرة، ولما طالت المدة في استمرار صدوره، وأصبح -الملحق- يباع على أنه صحيفة مسائية مستقلة عن صحيفة الجزيرة، ظل وزير الإعلام يحثني على إيقافه، وأنا أحاول أن أكسب الوقت ليأخذ الملحق صفته كصحيفة مسائية من خلال استمراره في الصدور، وإن كان من دون ترخيص، إلى أن وصلت مع الدكتور اليماني إلى طريق مسدود، فإما أن أوقف المسائية، أو أطلب رسمياً الترخيص لها كما اقترح الوزير، مع وعد منه بأن يحصل في فترة زمنية قصيرة على موافقة بصدورها، وقد وفى -رحمه الله- بوعده، وصدرت الصحيفة بترخيص رسمي، لكن مع صدور الموافقة أصر على أن أتخلى عن رئاسة تحريرها، وأن أبتعد حتى عن الإشراف عليها، وقد فعلت ما طلبه مني، فأوكلت إلى مدير عام المؤسسة الأستاذ صالح العجروش مهمة أن يقوم برئاسة التحرير بالنيابة، على أن أقود بشكل غير رسمي الإشراف عليها.
الصحافة وقسوة المحاكم
واستأنف المالك حديثه عن ثنائية هذه العلاقة قائلاً: لم تطل فترة الأستاذ صالح العجروش في رئاسة تحرير المسائية الشكلية، إذ صاحبها ما لم يكن في الحسبان، فقد نشر كاريكاتير نقلاً عن صحيفة أجنبية دون ترجمته، فيه ملاحظة دينية من دون أن يلحظ ذلك أيٌّ من العاملين في الصحيفة من محررين ومصححين وحتى من رئيس التحرير، مما استدعى الجهة المختصة لإيقاف الأخ صالح العجروش، وإحالتنا معاً إلى المحكمة الشرعية للنظر في هذا التجاوز غير المقبول وغير المبرر، وصدرت أحكام بحقه عن هذا الموضوع وبحقي في موضوعات أخرى نشرت بالجزيرة أيضاً، وكانت موضع ملاحظة دينية هي الأخرى، وتستحق أن يحال رئيس التحرير إلى القضاء للنظر في هذا التجاوز، وقد صدرت على كل منا أحكام شرعية قاسية، تدخل الملك سلمان حين كان أميراً لمنطقة الرياض، وطلب من الملك فهد -رحمه الله- أن يتم العفو عنا الاثنين، ويكتفى بالتعهد، وهكذا نجونا من عقوبة، لولا الملك فهد والملك سلمان، لكان قد تم تطبيقها.
أنا والمتنبي وغازي
وفي سياق تجربة المالك، وأحاديث الصحافة، قال: هناك قضايا أخرى كثيرة في الجزيرة كانت موضع ملاحظة على نطاق واسع، وأهمها نشري لقصيدة الدكتور غازي القصيبي -رحمه الله- (رسالة المتنبي الأخيرة إلى سيف الدولة)، إذ ترتب عليها إعفاء الدكتور غازي القصيبي من منصب وزير الصحة، وإقالتي من رئاسة تحرير صحيفة الجزيرة، حيث لم أعد لها مرة أخرى إلا بعد حوالي خمسة عشر عاماً بأمر من رئيس المجلس الأعلى للإعلام سمو وزير الداخلية في ذلك الوقت الأمير نايف بن عبدالعزيز -رحمه الله-.. وللعودة قصة طويلة، فقد كانت الجزيرة حين تركتها تحتل المرتبة الأولى من حيث التوزيع والانتشار وحجم الإعلان والأرباح وكفاءة أجهزة التحرير والكتّاب فيها، فإذا بها عند عودتي تنافس على المراكز الأخيرة في كل شيء، مما استدعى بـ95 % من أعضاء المؤسسة إلى التقدم للأمير نايف بوصفه رئيساً للمجلس الأعلى للإعلام بطلب عودتي إلى الجزيرة لإنقاذها من السقوط.. وقد وجد هذا الطلب المؤيد من سموه تأييداً من أمير منطقة الرياض (الملك فيما بعد) سلمان بن عبدالعزيز أيضاً، وقد تجنب الأعضاء الموقعون الطلب من بقية الأعضاء الذين يمثلون الـ5 % من أعضاء المؤسسة المشاركة في هذه المناشدة، ممن رأوا أن لديهم وجهة نظر أخرى بأن يكون هناك أكثر من اسم لاختيار رئيس التحرير القادم.. أكون أنا واحداً من بينهم، وهو ما رفضته، وأصررت على من تفاهموا معي، إما أن يكون الاختيار لي فقط، أو لا أكون ضمن هؤلاء.
عوداً على بدء
ومضى المالك قائلاً: وجدت -مع عودتي- من مجلس الإدارة برئاسة الأستاذ مطلق المطلق، ما ساعدني حقيقةً لأعيد الجزيرة إلى سابق عهدها من حيث الانتشار والتوزيع والأرباح، واستقطاع أسماء كبيرة من الكتاب والصحفيين، والظهور شكلاً ومضموناً بما جعلها تحتل موقعاً متقدماً بين الصحف الأخرى، حتى أن الأرباح وصلت إلى ما يزيد على رأسمال المؤسسة في آخر سنتين، قبل أن تمر الصحف الورقية وبينها صحيفة الجزيرة بمرحلة الجفاف والتجفيف لما كانت تحصل عليه من موارد مالية، بفعل النقص الحاد في الإعلانات وهيمنة «التويتر» والمنصات الإعلامية الجديدة، بما فيها الصحف الرقمية، على ما كانت تقوم به الصحف التقليدية.
سلمان وتطوير الجزيرة
وأضاف المالك في هذا السياق: إثر ذلك شرّفني الملك سلمان بلقاء جمعني به على انفراد في مكتبه بالإمارة، وتمحور الحديث حول توجيهٍ سامٍ كريم منه؛ فقد نصحني لكي أعيد الجزيرة إلى سابق عهدها بأن أفعل ما أستطيع لتهدئة الأوضاع المتأزمة بين بعض أعضاء المؤسسة، وأن أساعد على استتباب الهدوء داخل المؤسسة، وإيجاد بيئة عمل تخدم التوجه الجديد للنهوض بالصحيفة. وقد وعدته بأخذ ما أسداه من نصح وتوجيه على محمل الجد، ومنذ عودتي إلى اليوم أسعد بأني أعمل في مناخ يتسم بالتعاون الصادق بين الأعضاء، إلى جانب دعمهم لي بلا حدود من أجل أن تكون صحيفة الجزيرة ضمن الصحف الأولى بالمملكة.
وبعد استلامي رئاسة التحرير من جديد، ومع إحداث نقلة نوعية في الصحيفة من حيث المحتوى والشكل.. ومع البدء في ظهور الصحيفة بإخراج مختلف، وكتاب جدد، وتقديم صفحات لم تكن موجودةً من قبل، وتميزها بالأخبار التي تلامس رغبات القراء، مع اهتمام بالمحتوى العام، بما في ذلك صياغة المواد، واختيار العناوين، ووضع كل موضوع في المساحة التي يستحقها وفقًا لأهميته.. فوجئت في الصباح الباكر بالملك سلمان يتصل بي مبدياً رضاه عن صحيفة الجزيرة بثوبها الجديد، بكلمات أبوية، لم ولن تغيب عن ذهني؛ بما اعتبرت أن اتصاله ورأيه كانا لتحفيزنا (زملائي وأنا) على بذل المزيد من الجهد في الطريق الصحيح لتقديم ما هو أفضل. وحين استأذنته لنشر ما قاله لي هاتفيًا لم يتردد، بل منحني حق نشره. ولما عدت إليه لأقرأ الخبر بصياغتي الاجتهادية، وضممت كل الصحف على أنه يقدر جهدها، ويتابع عملها، اعترض على هذه الجزئية، وقال إنه لم يتحدث عن الصحف الأخرى، ويعرف متى يتحدث عنها، وأن كلامه معي كان لـ(الجزيرة) فقط تثميناً للنقلة النوعية السريعة، ولهذا التغيير والتجديد الذي صاحب أول لمسة في إعادتها إلى ما كانت عليه. وهكذا هو سلمان الملك والأمير، والمثقف بامتياز.
من ثنائيات المالك والسديري
أما عن ثنائية هذه العلاقة، فقال المالك: لا بدّ أن أشير ضمن تجربتي للشباب إلى المنافسة بين صحيفتي الرياض والجزيرة وبين تركي السديري -رحمه الله- وخالد المالك، وهذه بتفاصيلها وأحداثها وأزمانها تحتاج إلى كتاب يؤلف عنها، على أن هذه المنافسة على شراستها مكنتنا من إحداث نقلة نوعية في المحتوى والانتشار في كلتا الصحيفتين، سأروي لكم واحدةً من مظاهر المنافسة بين الجانبين، فقد صادف عند اقتحام جهيمان للحرم المكي في جريمة لن ينساها التاريخ، انعقاد مؤتمر القمة العربي في تونس، وكان ولي العهد -آنذاك- الملك فهد يرأس الوفد السعودي في هذا المؤتمر، وكنا رؤساء التحرير ضمن الوفد الإعلامي المرافق، وكانت الأخبار محدودةً وشحيحةً في اليومين الأول والثاني من وقوع هذه الجريمة، وقد استجاب الملك فهد لرغبتنا في التعرف على ما حدث بأن كلف وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل -رحمه الله- لاطلاعنا على كل شيء عن هذا الحدث، اقتصر اللقاء بالأمير سعود على رؤساء تحرير الصحف السعودية ومعهم استثناءً رئيس تحرير صحيفة السياسة الكويتية الزميل أحمد الجار الله، تحدث الأمير سعود مطولاً، وقال كل شيء عن دخول جهيمان على رأس مجموعة من الأشخاص للحرم واحتلالهم له، وطلب في نهاية اللقاء عدم النشر، والاكتفاء بما سيصدر لاحقاً من بيانات رسمية، وفقاً للتطورات المتوقعة عن الحادث.
وثنائيات: الجزيرة والرياض
وأضاف المالك في سياق روايته لهذه القصة: بعد انتهاء الاجتماع، همس أحمد الجار الله في أذني عن أنه سوف ينشر كل ما تحدث به الأمير سعود، على أنه حديث للسياسة طالما أن الصحف السعودية لن تنشره، وأبدى استعداده لنشره في الجزيرة بالتزامن مع السياسة، وسألني إن كنت أرغب في ذلك، فما كان مني إلا الترحيب والموافقة الفورية، طالما أن الحديث سينسب للسياسة على أنه خاص بها، وبذلك يزيل الحرج عني، وأن الحديث لا علاقة له باجتماع الأمير برؤساء التحرير، وبالفعل طلبت من الزميل محمد الوعيل انتظار وصول نسخة من الحديث إليه، ونشره باهتمام، فتم نشر الحديث، وتناقله المواطنون على نطاق واسع لكونه تضمن أول معلومات عن حادثة الحرم، المهم في الموضوع بالنسبة لي أن السياسة لن توزع في المملكة إلا في اليوم الثاني من نشره، فيما أن صحيفة الجزيرة ستنشره في اليوم الأول، أي أن الجزيرة أخذت السبق في تمكين المواطنين من التعرف على ما جرى، وكأن حديث الأمير لم يكن لرؤساء التحرير الذين التزموا بعدم النشر، ولا للسياسة التي توزع في اليوم الثاني، وإنما هو حديث للجزيرة.
حكاية يوم من المنافسة
ومضى المالك في سرد القصة قائلاً: في يوم صدور الجزيرة بهذا السبق الصحفي المهم، والضغوط على الزملاء في صحيفة الرياض لغيابهم عن هذا الحدث، جنّ جنون الزميل العزيز تركي السديري -رحمه الله-، واتصل بي مبدياً نفيه لأن يكون الأمير قد تحدث بانفراد للزميل أحمد الجارالله، وهو في هذا محق وصادق، لكني قلت له: ولِمَ لا يكون قد تحدث له بعد اجتماعنا بسموه، فوزير الخارجية لن يتحدث لنا بمعلومات، ولأحمد الجارالله بمعلومات أخرى، لكن تركي لم يقنعه هذا الكلام، وقال إن بياناً سوف ينشره بالمشاركة مع رئيس تحرير صحيفة المدينة الزميل أحمد محمود، ينفيان فيه أن يكون الأمير قد تحدث لأحمد الجارالله، وحتى عندما قلت للمرحوم الصديق تركي السديري إن من ينفي ذلك هو الأمير سعود أو وزارة الخارجية لا الرياض ولا المدينة لم يقنعه هذا الكلام أيضاً وأصر على موقفه.
كنت في هذه الأثناء قد تركت تونس إلى باريس، وفي ضوء كلام رئيس تحرير الرياض وتأكيده على هذا النفي المؤكد نشره، طلبت من الزميل محمد الوعيل أن يرسل لي صورةً من بيان الرياض والمدينة عند نشره، حتى أرد عليه، وفي الصباح الباكر وأنا في باريس كان البيان قد وصلني، فأعددت رداً بمقال عنوانه: (دموع الرياض)، واقتصرت في ردي على صحيفة الرياض دون إشراك صحيفة المدينة، مع أن البيان باسم الصحيفتين، لسببين، الأول منهما أن المحرض على دخول صحيفة المدينة طرفاً في هذا الموضوع هو رئيس تحرير صحيفة الرياض، وأن التنافس ثانياً هو بين الرياض والجزيرة وبين تركي السديري وخالد المالك، لا بين الجزيرة والمدينة ولا بين أحمد محمود وخالد المالك.. وبعد نشر هذا الرد التعقيبي على البيان تلقيت اتصالاً كريماً من الملك سلمان حين كان أميراً للرياض، يطلب مني وقف هذه المهاترات مع صحيفة الرياض، وأن الدولة مشغولة بما هو أهم من خلافاتكم.. ولا بدّ أن الملك سلمان، قد اتصل بالزميل تركي وتحدث معه كما فعل معي، وبذلك لم تعقب صحيفة الرياض على ما أسميناه دموعها.
المؤسسات الصحفية والعاصفة
كما تحدث المالك عن ما تمر به الصحافة من تحولات، وتحديداً ما تواجهه المؤسسات الصحفية، قائلاً: يعرف من كان لصيقاً بالصحافة، أو متابعاً لها خلال العقود الخمسة الماضية، أنني دخلت الصحافة عبر بوابة الرياضة، وخرجت منها من بوابة الثقافة، وعدت إليها بمجداف الإنقاذ لها، وأنني حين نشرتُ أرقام توزيع الجزيرة يومياً لأول مرة في تاريخ الصحافة السعودية، بما لم تجرؤ صحيفة أخرى على ذلك، أن هدفي من ذلك لكي لا يستمر تضليل القارئ بأرقام وهمية، وأن دفاعي عن الصحافة الورقية كي لا تموت، كان أساسه أن الصحافة الإلكترونية بوضعها الحالي، إنما هي كذبة كبيرة كشفها المحتوى الهزيل في صناعتها، وأن الحل الأمثل لوضع المؤسسات الصحفية أن يتم مراجعتها لا الدفع بها إلى التراجع، مع إيماني بأن المتغيرات التقنية هي اليوم أسرع من تفكيرنا، وعلينا مسابقتها وسبقها، وهذا يجعلني أذكر الجميع الآن بأن الأنظمة الرقابية لم تعد مجديةً، وأنه حان الوقت لتعديلها، وسوف أكون قاسياً لو قلت إن تخصص الإعلام لم يعد الآن جاذباً، وأن على الجامعات إغلاق أقسامها، لكن ما حيلتي وأنا أرى المؤسسات الصحفية توشك أن تموت بين أيدينا دون أن نفعل شيئاً لإنقاذها، بما لا حاجة إذاً لهذه الأعداد من خريجي أقسام الإعلام.
هيئة الصحفيين والطموحات
وقال المالك: لقد قادتني رئاسة تحرير صحيفة الجزيرة، لأكون رئيساً لهيئة الصحفيين السعوديين، ورئيساً لاتحاد الصحافة الخليجية، وهما منصبان شرفيان، وفي ذات الوقت هما مؤسستان من بين أهدافهما خدمة من ينتسب إلى الإعلام من صحفيين وكتّاب وتخصصات إعلامية أخرى، ولا بدّ من القول إن عملاً تطوعياً كهذا يندرج ضمن مسؤوليات القادرين على تقديم الخدمة للزملاء، ولا أدعي أني قد قدمت بما يرضي هؤلاء الزملاء في المملكة والخليج، ولكني أزعم بأني عملت ما وسعني به الوقت والجهد، وبذلت -ولا أزال- ما أعتقد أهميته في هذا السياق، غير أن التحديات والإمكانات، وعدم التفرغ الكامل لا تساعد على بلوغ الأهداف التي تمنيتها وأنا خارج هاتين المؤسستين، وأتمنى تحقيقها الآن، وأنا على رأس المسؤولية في كلتا المؤسستين، على أمل تحقيق ما هو أفضل الآن لا في المستقبل البعيد.
وفي فترة الخمسة عشر عاماً التي غبتُ فيها عن الجزيرة ربما تساءل بعضكم كيف قضيت هذه الفترة، وجوابي أنني كلفت بإنشاء الشركة الوطنية الموحدة للتوزيع، وعينت مديراً عامًا لها، وعضواً في مجلس إدارتها، كما مررت بتجربة جديدة بالنسبة لي وهي العمل بالقطاع الخاص، حيث دخلت عالم الزراعة بإنشاء واحدة من مزارع القمح الكبيرة، ودار نشر لإعداد ونشر الكتب الإعلامية، ومكتب للبيع والشراء والاستثمار في بيع الأسهم، وغير ذلك، مما كنت أمر به من تجارب، مبتعداً ولو إلى حين عن العمل الصحفي، الذي ظل هاجسي، وفي وجداني وذهني، إلى أن عدت ثانيةً لرئاسة تحرير صحيفة الجزيرة.
وأخيراً.. أيّها الشباب
وختم المالك حديثه عن تجربته لخمسة عقود صحفية، قائلاً: في كل ما تم سرده هناك تفاصيل أخرى لم أقلها، إما لأنه مؤجل البوح بها، أو لأن المصلحة تقتضي أن يتم دفنها مع صاحبها حين يحل الأجل، لكن ما أود أن ألخص به هذا الكلام عن (تجربتي للشباب) من الإخوة والأخوات، أولاً الإصرار على بلوغ النجاح، وتحقيق الهدف، دون الشعور باليأس، مهما كانت المعوقات.. وثانياً أن النجاح مرهون بحسن التعامل مع غيرك: رؤساء وزملاء ومن ذوي العلاقة خارج إطار الوظيفة.. وثالثاً أن تجربتنا كانت لها ظروفها ومناخها، وهي الآن غير تلك من حيث المتغيرات والابتكارات وتدخل التقنية في حياتنا.. ثم رابعاً، على شبابنا وشاباتنا عدم الاستعجال في تحقيق مراميهم، أو الشعور بالهزيمة إن لم تتحقق أهدافهم في التوقيت الذي يرونه.. وخامساً، أهمية التكيّف مع ما قد يراه الشاب والشابة من تقديم الأقل جدارة على من هو أجدر، فهذه لا تدوم، لأنها ترتبط بصاحب القرار، وصاحب القرار قد يتغير، ومعه تتغير أشياء وأشياء.. وسادساً التعود على أن المنافسة عامل محفز للنجاح.. وسابعاً: على الشباب والشابات أن يقترن طموحهم بالتجديد والابتكار وفتح نوافذ جديدة للإبداع، والهروب من النمط التقليدي في ممارسة العمل.. وأخيراً لا آخراً هذه وجهة نظر متأخرة جداً، فأن يتحدث الإنسان عن تجربته عند تقدمه في العمر فإن كلامه لا يكون بتلك الجودة والقيمة والتأثير فيما لو أنه تحدث عن ذلك حين كان في كامل نشاط حواسه، لكن لا بأس بأن يهذر الإنسان عند كبره كما كان يردد ذلك المرحوم شيخنا حمد الجاسر.
غداً.. الأسئلة والمداخلات