الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
اهتم الإسلام بالحفاظ على بناء الأسرة المسلمة واهتم بحل مشكلاتها والبحث عن أسبابها حتى يعطيها العلاج الناجع؛ فجعل للرجل حرية اختيار الزوجة، وكذلك جعل للمرأة حرية اختيار الزوج؛ حتى تقوم الأسرة على التفاهم، ولكن بالرغم من ذلك فكل بيت مسلم لابد وأن تعتريه أوقات تظهر فيه المشكلات، حتى لتكاد في بعض الأحيان تعصف باستقرار الأسرة المسلمة.
«الجزيرة» التقت عدداً من الخبراء والمهتمين بالشأن الأسري، ليتحدثوا عن الجوانب الخفية وراء تزايد المشكلات والأزمات.
أسباب المشاكل
بداية يحدد فضيلة الشيخ الدكتور عبدالله بن محمد الطيار عضو الإفتاء بمنطقة القصيم، أهم الأسباب التي تؤدي إلى حصول المشاكل الأسرية وذلك وفق النقاط التالية:
- أولاً.. التهاون في الذنوب والمعاصي: فالذنوب والمعاصي لها تأثير فعّال في حصول المشاكل بين الزوجين: فإن المعاصي تزيل النعم، وتجلب النقم، وتشتت القلوب، وتدمر المبادئ والقيم، ويحصل بوجودها في البيت تمرد وشذوذ.. فالمرأة لا تطيع زوجها؛ لأنها ترى فيه أثر المعاصي، وترى فيه الاستغراق في الذنوب، وترى فيه عدم الوقوف عند أوامر الله، فتتمرد عليه عقوبة له، وكذلك الزوج يرى أن زوجته لا تقيم أوامر الله، ولا تستجيب لداعي الله، وتستمع إلى الحرام، وتنظر إلى الحرام، وربما مارست شيئاً من الحرام، وتكاسلت عن الطاعات والفرائض، فيتولد في قلبه كرهاً لها، وبغضاً لها، وأيضاً يتمرد عليها، ويقسو عليها، ويمارس ضدها أسوأ أنواع العشرة.. لماذا؟.. عقوبة من الله عليها يقول أحد السلف: إني لأعصي الله فأرى أثر ذلك في سلوك زوجتي ودابتي.
- ثانياً.. إهمال الحقوق: السبب الثاني من أسباب وقوع المشاكل الزوجية: إهمال الحقوق بين أفراد الأسرة.. فلا يقوم كل طرف بالحقوق الواجبة عليه تجاه الطرف الثاني؛ فيترتب على هذا فساد وخلل في التعامل، وإذا قام شخص وأعطاني الحق كاملاً، أقوم أنا بأن أبادله فأعطيه الحق كاملاً، وبالتالي لا تقع أي مشكلة، لكن عندما تقصر المرأة في الحقوق الواجبة عليها تجاه زوجها، أو يقصر الرجل في القيام بالحقوق الواجبة عليه تجاه زوجته؛ يحصل الإشكال، وتحصل الأدوار المتباينة، هي تقصر في حقه فيقصر هو في حق آخر، أو هو يقصر في حق فتعاقبه بأن تقصر في حقه، فإذا قصرت أو قصر هو تولدت الكراهية، وحصلت ردود الأفعال، وتصاعدت المشاكل، حتى تؤدي في النهاية إلى تدمير الأسرة بسبب إهمال الحقوق الزوجية التي يجب على كلٍ من الزوج والزوجة القيام بها.
- ثالثاً.. تدخل الأهل والأقارب والجيران في الخلافات الزوجية: من أسباب المشاكل الزوجية: تدخل الأهل والأقارب والجيران في الخلافات الزوجية البسيطة، وتصعيدها، وزيادتها، والمساهمة في نموها وكبرها، حتى تقضي على الأسرة.
- رابعاً.. عدم النظر إلى المحاسن والتركيز على الأخطاء: كذلك من الأسباب: عدم النظر إلى المحاسن، وتركيز النظر إلى الأخطاء فقط.. يفتح الرجل عينه على ما يحدث من خلل في المرأة، وهي تفتح عينها على ما يبدو من أخطاء أو سلبيات في الرجل، أما المحاسن فتهملها، وهو أيضاً يهملها، وبالتالي لا يرى إلا الشيء السيئ؛ فيتولد عن هذا كراهية للمرأة، وهذا مخالف للعدل، ومخالف للشرع، يقول عليه الصلاة والسلام والحديث في صحيح البخاري: (لا يفرك مؤمنٌ مؤمنة -أي: لا يبغض مؤمن مؤمنة- إن كره منها خلقاً رضي منها آخر).
- خامساً.. سوء الظن من قبل الزوجين وفقدان الثقة: من الأسباب التي تؤدي إلى وقوع المشاكل الزوجية: سوء الظن من قبل الزوج؛ فيظن السوء دائماً بامرأته، أو من قبل الزوجة دائماً تسيء الظن، حتى تفقد الثقة ويفقد الثقة، وفقدان الثقة بين الزوجين من أعظم عوامل تدمير الأسرة، لا بد أن يعمل كل زوج وكل زوجة على أن يعمق الثقة في قلب الآخر حتى يكون أهلاً لها.
أزمة وعيّ
وتقول الدكتورة فايزة بنت صالح الحمادي -وكيلة جامعة الملك فيصل سابقاً، والأستاذ بكلية الآداب- في عصر دالت فيه الحدود، وتسارعت فيه وتيرة المعلوماتية، وتزايدت فيه الإحاطات بالواقع المعيش عبر شلالات من الصور والفيديوهات والأخبار الحصرية، أصبح العالم أقرب إلى قرية صغيرة، فصار تجديد الخطاب الحياتي أملَ البشرية في مزيد من الانفتاح والوعي وإدراك الآخر، لا سيما في بيئة تحتفي بالاندماج والبحث عن المشترك الإنساني، وتنحو باللائمة على المترددين والمتسكين بأهداب الماضي.
تقرر إذن أن لكل عصر تمثلاته وتجلياته وملامحه، لكننا لا نملك -بشيء من التصارح مع الذات- إلا الاعتراف بأن الجوانب الاجتماعية في حياتنا ما زالت في خطابها القديم.. ثمة عقوق وقطيعة أسرية، ثمة مشكلات زوجية، هناك تضخم في حالة التنافر المجتمعي داخل الأسرة الواحدة.
نعم، تقدّمت المجتمعات البشرية خطوات إلى الأمام في الحضارة والتكنولوجيا لكنها ما زالت ترزح تحت خطابها الاجتماعي المستهلك، الذي يستأسد به الرجل على المرأة، ويعاني فيه الأطفال من الإهمال والانشغال عنهم، وتشعر المرأة بالغبن المجتمعي، وبضعف الشخصية، وتحطيم آمالها، مرّة بدعاوى ما أنزل الله بها من سلطان، من أن (المرأة لبيتها) وتحجيم طموحاتهم بالقطع عن الدراسة، والمنع من العمل، ومرة بجعْل الأبناء والإخوة كالجزر المنعزلة، لا يجمعهم طموح، كأن الصمغ العربي الذي اشتهرت به بلادنا، صار أضعف من أن يحكم رباط عائلة واحدة، ولطبيعة العصر والانشغال دور، وهذا حقيقي، ولتهميش المرأة وإضعافها دور، وذلك صحيح بالقدر نفسه.
وتؤكد د. الحمادي أن المشكلة أولاً وأخيرًا مشكلة وعي.. نريد وعيًا على مستوى الحضارة ونضج الأفكار، يدفع الرجل إلى أن يراجع نفسه في تعامله مع شريكته جارة كانت أو زميلة أو أختًا أو زوجة، تعاملاً ينبع من أنها اليد الثانية والعين الثانية، وأنها القدم الأخرى التي تسير عليها المجتمعات كافة، وأنها ليست (آخَر)، وليست (غير).. إلا بما تحويه طبيعتها من قدرة على المواجهة ومن التحديات التي بذرت فيها روح التحمل، فنحن نريد وعيًا بأن الأطفال أمانة وأن تربيتهم هي المسؤولية، وليس مسؤولية ضمن مسؤوليات، وأنهم المستقبل والأمل، وأن الاستثمار فيهم أثمن من الاستثمار في سيارة أو عقار، ونريد وعيًا بأن الإخوة هم السند والقوة، وأن المجتمع يتقدم بقدر ترابط عناصره وجماعاته، وانسلاكهم خلية نحل ليس فيها غير عاملين سواسية في الحقوق والواجبات، ونريد وعيًا بأن العقوق إهانة للذات، وهو تهديد خطير لمسيرة إنسانية قطعتها البشرية نحو احترام الأكبر، لا سيما إن كان والدًا، وتقدير الأصغر، لا سيما إن كان طفلاً؛ إذن الأزمة أزمة وعي قبل أن تكون مشكلات عائلية أو معضلات أسرية، وحلُّها في الوعي.. الوعي هو المرض وهو العلاج.
فتح الخصوصيات
ويبين د. بدر بن محمد المعيقل -عميد كلية الشريعة والقانون سابقاً بجامعة الجوف- قائلاً: هي شكاوى متبادلة، وكل طرفٍ من الأطراف يلقي باللائمة على الأطراف الأخرى، بينما المشكلة مشتركة بين الجميع، ولعل من أهم أسبابه ومسبباته، وأقوى عوامل موجوداته في مجتمعنا وفي داخل بيوتنا: عدم الاحترام المتبادل بين سائر الأطراف (الزوج والزوجة، الأم والأبناء، الأب والأبناء)، وبالتالي: انعدام مفهوم ومعنى القدوة والأسوة، ثم فقدان معنى الخصوصية الواجبة والمتحتمة بين عمودي الأسرة (الأم والأب).
حال الحاجة لها (كحال الخصومة، والنقاش في حلول المشكلات، وحال الأبناء)، مشيراً إلى أن من أهم ما يغفل عنه كثيرون اليوم في مجتمعنا: التأثير السلبي للأبناء على الآباء، تجاه الأعمام والأخوال، مما تسبب في قطيعة الرحم، وتفشيها في المجتمع، ثم لابد أن يقال كذلك: أن كثرة الانشغال بالعالم الجديد (وسائل التواصل) الذي أصبح بين يدي الصغار والكبار والذي أصبح جاذبًا بكل طرقه ووسائله المتنوعة والمتجددة، وهو الذي ولّد كثيرًا من معاني فقدان الهوية أحيانًا وازدواج الشخصية أحيانًا أخرى، كما ولّد انعدام الثقة بالمجتمع الحقيقي المتمثل بالأسرة والمجتمع المحيط، وإعطاء هذه الثقة إلى هذه العوالم ومن فيها من عالمٍ متنوع يبرز نصف وجهٍ حسنٍ ليخفي النصف الآخر القبيح ثم إن هذا العالم فتح خصوصيات البيوت للناس على مصراعيها، فاطلع الناس على تفاصيل ما فيها، مما ولد حنقًا وحسدًا وكراهية بين أبناء المجتمع الواحد، بل والأسرة الواحدة، ثم إن انعدام روح النقاش الحقيقي للوصول إلى عين المشكلة، لا يكاد يكون موجودًا حقيقةً إلا في النادر من البيوت وإن وجد ذلك، فإن العمل الجاد الدؤوب على إيجاد الحل الجذري قلّما يكون متوفرًا ويعمل به الجميع.