د. جاسر الحربش
في صيف رمضان اللاهب تمنيت لو أنني قد بنيت في منزلي الاسمنتي المصمت جزءاً صغيراً من الهيكل الطيني المسقوف بالخشب وجريد النخل وزينته بشبابيك منقوشة وأبواب خشبية مقمرة. ليس من الضروري أن يكون الملحق الطيني في الواجهة المطلة على الشارع، فذلك أصلاً مما لا تسمح به هيئة تطوير المدينة بحجة عدم الانسجام مع المظهر العام. منظر بيت شعبي أو جزء منه في حي مسكوك من الحديد والاسمنت والزجاج لم يعد للأسف مقبولاً لأننا نعتبره مثل الثؤلول في خد المرأة الجميلة. هذه الخطيئة، خطيئة التنكر لما أثبت صلاحيته وفوائده من التراث المعماري القديم، أخشى وربما أتوقع أننا سوف نندم على ارتكابها في المستقبل.
ملحق طيني لا يأخذ خمس مساحة المنزل ومخبأ في الخلف عن الأنظار قد يقدم ملجأ لأهل الدار حينما تصبح الحرارة داخل جدرانهم الاسمنتية لا تطاق والمكيفات تئز من كل الجدران والسقوف، والفواتير تلتهم قسماً كبيراً من المصاريف المعيشية. مكيف صحراوي واحد يكفي بالتأكيد لتبريد كامل البناء الطيني، وفي حالة انقطاع التيار الكهربائي -لا سمح الله- يكفي رش الأرضية بدلو من المياه وفتح شباكين متقابلين.
مثال الملحق الطيني مجرد استدلال واحد في مجال العمران على الخطأ التاريخي الذي ارتكبناه منذ سبعة عقود عند استبدال الجديد المستورد بالكامل المجرب القديم بالكامل. جملة الأخطاء في تعاملنا مع الطقس والمناخ والتربة ومصادر المياه والحياة النباتية الفطرية والحيوانية ليس لها أول ولا آخر. لنأخذ أولاً تعاملنا مع الطقس والمناخ. استوردنا التكييف الصناعي في المنازل كبديل للتبريد بالطريقة العربية المعروفة منذ الحضارة العباسية، وهي بناء الرواشن المملوءة بالقش المغسول وتصب عليها المياه النظيفة ليمر عليها تيار الهواء من الأعلى إلى الداخل. مسألة الاحتجاج بالغبار حلها في تركيب غطاء هرمي فوقها يفتح ويقفل حسب الطلب.
ثم لنأخذ جزئية الثروة الحيوانية. الماشية الصحراوية بكل أنواعها، الجبلية والرملية والساحلية جاءت نتيجة اصطفاء بيئي عبر آلاف السنين. عندما خلطنا معها مواشي مستوردة من القارات الخمس ضربتها الأوبئة وأضعفت مقاومتها، لتهلك بالآلاف في دورات مرضية تتكرر وتنقل الأمراض للسكان.
الحياة الفطرية النباتية لم يبق منها سوى النخيل، ربما لأن هذه الشجرة المباركة لثمارها في الأفواه والحلوق طعم لا يعادله طعم أي ثمار أخرى. الحياة الفطرية الحيوانية والنباتية تآكلت بالصيد والرعي العشوائي ورمي المخلفات النباتية والاستهلاكية في الوديان والشعاب والكثبان.
مصادر المياه المطرية والجوفية جففتها المزارع الشاسعة العبثية والاقطاعيات الخرافية، لدرجة أن الفاقد من مصادر المياه الطبيعية في سنة واحدة يعادل إنتاجنا من المياه المحلاة على السواحل لمئات السنين.
العالم كله مقبل على مرحلة جفاف وتصحر، وسكان الأرض في ازدياد بما في ذلك سكاننا نحن، وكذلك سكان الدول التي نستورد منها الغذاء واللحوم، ومداخيل الفرد عالمياً في تناقص وكذلك مداخيلنا نحن، وقدراتنا الشرائية ليست في وارد تغطية حاجاتنا المستقبلية.
مشروع المحميات الملكية لإعادة الحياة الطبيعية في المملكة، ومشروع الطاقة الشمسية الضخم، مشروعان مبشران ورياديان لتقديم الحلول على المستوى الرسمي، ولكن أخطاء العمران واستهلاك المياه وتدمير البيئة بالمخلفات والردميات وتلويث الاصطفاء الحيواني بالمستورد، هذه أمور تتطلب وعياً وطنياً لضرورة العودة إلى التصالح مع البيئة.