د. جاسر الحربش

معاناة كل أمة مع تاريخها تكون أشد بقدر عظمة الماضي وضعف الحاضر. تقديم التاريخ كمنهج مدرسي أو تداول أحداثه المختارة في المجالس شيء ودراسة التاريخ بمنهجية المقارنة العلمية مع تواريخ الأمم الأخرى شيء آخر. الفعلان الأولان يهدفان لرفع الروح المعنوية وربما برغبة تكرار ما مضى أوالحلم بتكراره، والفعل الثالث هدفه التخلص من عيوب ما مضى والاحتفاظ بالجيد منه والوصول إلى تاريخ أفضل. ركيزة دراسة التاريخ منهجيا ً تعتمد على المقارنة بتواريخ أمم أخرى وفوائد ذلك واضحة.

حين تنزلق أمة من حقبة تاريخية تفخر بها إلى حقبة تخجل منها تتصادم بداخلها ثلاثة تيارات، واحد يبالغ في تمجيد الماضي لدرجة التقديس، وواحد يبالغ في تجريد الماضي من كل المحاسن وتقديمه بصورة اعتذارية مخجلة، والثالث يطالب بإجراء عملية فرز ومقارنة عادلة مع تواريخ الأمم الأخرى وإعادة نظر في الظروف والمتغيرات، وهذا ما تفعله الأمم الواعية لديناميكية السقوط والنهوض.

نتف اللحم عن العظم وتقديم تاريخ الأمة على أنه كله عورات وسوءات حدث بعد الاستسلام الشامل غير المشروط في ألمانيا واليابان على سبيل الأمثلة. كثرت الروايات والمسرحيات الأدبية عندهم في هذا الاتجاه ووصلت الأمور إلى انتحار كتاب وروائيين يابانيين وألمان خجلا من تاريخ أمتهم. في الاتجاه المضاد وجد عندهم كتاب وأدباء ومسرحيون تشبثوا بفكرة التفوق التي كانت سائدة في المجتمع الياباني والألماني قبل الهزيمة، بعنصريتها وعدم استعدادها لدراسة التاريخ بهدف التحرر من السيئ فيه وعدم تكراره. لحسن حظ الألمان واليابانيين كانت الغلبة للعقلانيين من سياسيين وأدباء وكتاب ومسرحيين، فعادت النهضة بطريقة تصحيحية بناءة.

أعتقد أن التاريخ العربي المشترك بين كل العرب (وهو بالفعل مشترك عبر مئات السنين) يتعرض حاليا ً لنفس النوع من التيارات الثلاثة، ولكن أعلاها صوتا هو المتبرئ الناتف للحم من العظم. لا يوجد في الساحة حسب اطلاعي مدرسة عربية اعتبارية تقدم التاريخ العربي بطريقة المنهج المقارن للخروج بخارطة طريق تحفز على تكرار ما يستحق والتحرر مما لا يستحق والمقارنة مع تواريخ الأمم الأخرى. الفرس والعرب والترك يتشابهون ربما لدرجة التطابق في هذه النظرة المتشنجة للتاريخ، ولا شك أن ذلك من أهم الأسباب المعطلة للتفاهم والتحرر مما يجب التحرر منه لبناء مستقبل جديد. هل يعيب علي أحد عندما أقول إن أمة صحراوية ليس لها من المقومات المادية لصناعة التاريخ شيء يذكر لكنها شاركت بفعالية في صناعة تاريخ العالم في كل مناحيه هي أمة تستحق الاحترام ودراسة تاريخها بطريقة التحليل المقارن بتواريخ الأمم الأخرى؟.