د. جاسر الحربش
بصفتي أحد الأطباء القدامى الذين عاصروا القطاع الصحي منذ خمسة عقود انتقدت في عدة مقابلات وكتابات خطأ كل وزير جديد بطمس الخطط التجديدية والتحديثية للوزير السابق ومحاولة البداية بخطط جديدة ليلغيها وزير لاحق. الحمد لله جاءني تأييد من حيث لا أحتسب كما سوف يتضح من سياق المقال.
كرَّمني الشيخ جميل الحجيلان - متعه الله بالصحة والعافية- بإطلاعي على جزء من مشروع مذكّراته، وهو الجزء الذي عمل فيه وزيراً للصحة أيام الملك فيصل - رحمه الله-. علاقتي بأبي عماد الشيخ جميل الحجيلان قريبة العهد، بدأت بعد أن تقاعد عن كل الأعمال الرسمية وبعد أن صال وجال في كل ميادينها، الدبلوماسية والإعلامية والصحية واختتمها بما يجمع بين الدبلوماسية والسياسة والإعلام كأمين عام لمجلس التعاون الخليجي.
تعرّفت على الشيخ الحجيلان في منزل الصديق العزيز صالح بن عبدالرحمن السماعيل الذي كان واحداً من أهم طواقمه في مجلس التعاون الخليجي، ثم تحوّل التعارف إلى استلطاف وتناغم في الآراء والاهتمامات الثقافية، ثم إلى صداقة ومودة، مع احتفاظي لمقامه بعلاقة الطالب بالأستاذ، وهو بالفعل أستاذ متخصص بالقانون وأستاذ بتمكّنه وإتقانه لثلاث لغات هي العربية والفرنسية والإنجليزية، وبما يختزنه من معارف وخبرات ميدانية في الشؤون المدنية العصرية. من المؤكّد أن مذكّرات الشيخ جميل الحجيلان، عجّل الله بصدورها، سوف تقدم كنزاً مرجعياً للفترة التي كلّفته أثناءها دولتنا الموفقة الناهضة بالقيام بالكثير من الأعمال والمسؤوليات.
بعد أن وفّق الشيخ الحجيلان في إنشاء أول وزارة إعلام سعودية وتوطيد العمل فيها بإدارته كأول وزير إعلام سعودي (وكان قبل ذلك سفير السعودية في الكويت) استدعاه المغفور له الملك فيصل إلى مكتبه يوم الأحد 27 صفر 1390 هـ، وكلّفه بوزارة الصحة مع الاستمرار وزيراً ًبالنيابة للإعلام، فصار يُسمى ذا الوزارتين. الجزء الذي أطلعني عليه أبو عماد من مذكراته يخص عمله في وزارة الصحة فقط، وهو طويل ومشحون بالذكريات وبتفاصيل الجهود المضنية مع الأوبئة أثناء وبعد مواسم الحج ومع قطع آلاف الكيلومترات على خطوط صحراوية لم تعبد آنذاك، لاستطلاع الأحوال الصحية ومتطلباتها في المناطق النائية التي كانت في ذلك الزمن تغط في عوالم العزلة والجهل والمرض، فلا كهرباء ولا مياه ولا طرق، وبالطبع لا أطباء ولا حتى مستوصفات بدائية للتعامل مع العلل الطارئة، ومع معاناة الوزير مع البيروقراطية السلحفاتية وخصوصاً في وزارة المالية.
كان الشيخ جميل الحجيلان يعتبر وزارة الإعلام أجمل سنين حياته العملية، رافقها منذ الولادة وفتح أبوابها للوفود العالمية الزائرة ولبرامج التثقيف والترفيه ولنجوم الغناء العربي الراقي، بالإضافة إلى أقسام بالفرنسية والإنجليزية. الإنسان جميل الحجيلان بطبعه رجل قانون وابن عائلة وثيقة الصلة بالثقافة والتاريخ والفنون، ولكنه منبت الصلة بعلوم الأمراض والاستطباب والعلل والاستشفاء، فكانت سنواته في وزارة الصحة معاناة خارج السياق مع العراقيل البيروقراطية وتقتير وزارة المالية وضعف الإمكانيات الميدانية والإدارية وخصوصاً في الشؤون الصحية.
في الحلقة القادمة سوف ألتقط من المذكّرات ذلك الجزء الذي يتعلّق بإلغاء كل وزير جديد للجهود التحديثية التجديدية لزميله السابق وجعلها طعاماً ًللفئران في المخازن كما عبّر عن ذلك الشيخ جميل في مذكّراته. أعتقد أن تعرّضي لذلك في عدة مقابلات وكتابات سابقة هو ما جعل الشيخ جميل الحجيلان يطلعني على جزء من مذكّراته قبل النشر وأغتنم الفرصة لتقديم جزيل الشكر والامتنان لمعاليه.