بريدة - خاص بـ«الجزيرة»:
كشف عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة القصيم الدكتور/ خالد بن عبدالعزيز أبا الخيل أن كليات الشريعة تواجه إقبالاً كبيرًا، يتجاوز طاقتها الاستيعابية، وأنه علينا التركيز على صناعة طالب علم متميز متكامل للأدوات العلمية دون مراعاة أي أمر آخر، وسنحقق كذلك متطلب سوق العمل بجودة المنتج، وقبل ذلك صناعة علماء للشريعة في البلاد التي كانت الشريعة - وما زالت - عماده وأساسه.
وأوضح د. خالد أبا الخيل في حواره الصريح مع «الجزيرة» أن مشكلات الفتوى هي إشكالية مصطلح الداعية الذي يتسلل منه أدعياء العلم، مشيرًا إلى أن الأقسام العلمية مرتهنة لإشكالاتها العقدية والإعراض عن البحث في الإشكالات العقدية والفكرية المعاصرة. مشيرًا إلى أن الإشكال في قراءة السيرة هي التوظيفات والإشكالات الخاطئة على مشاهد السيرة ومواقفها.
ودافع د. أبا الخيل عن دور المؤسسات الشرعية في مواجهة العنف والتطرف مؤكدًا أن كثيرًا من سدنة التطرف والغلو نتاج تخصصات علمية وتجريبية.
كما تناول الحوار عددًا من القضايا الشرعية والفكرية والعلمية التي تهم الساحة الإسلامية. وفيما يأتي نص الحوار:
* هل ترون أن كليات الشريعة بحاجة إلى تطوير نوعي لمواكبة مستجدات العصر؟
- فكرة التطوير بحد ذاتها يجب أن نرحب بها جميعًا في أي مرفق، ولا نستنكف منها، بل نستنكف من حالة الركود والتراجع. وكليات الشريعة في المملكة تمر اليوم - بحمد الله - بنقلة نوعية من حيث العناية بخططها الدراسية. وقد تولت هيئة تقويم التعليم والاعتماد الأكاديمي دفع الكليات الشرعية لتحديث خططها، لكن مع كل هذا فكليات الشريعة في المملكة بحاجة إلى تفكير يأتي من خارج الصندوق، خاصة في مسألتين: صبغ المناهج والخطط الدراسية بالهوية الوطنية للبلد، وثانيها: تطوير الخطاب العقدي والفقهي المتداول في هذه الكليات. وتطوير الخطاب الفقهي يكون بتوسيعه وفتح آفاق الطلاب على المذاهب والاختيارات الفقهية المقبولة؛ ليطلع الطلاب على ثراء الشريعة وتنوعها. وهذا من شأنه أن يبني لدى الطالب عقلاً واسعًا متوازنًا. وتطوير الخطاب العقدي يكون بتركيزه على دراسة الإشكالات العقدية المعاصرة، مثل تفكيك خطابات الغلو بشقيه الغالي والجافي، وتناول القراءات المنحرفة للنصوص الشرعية، وبيان مآلاتها وامتداداتها العقدية، وكذلك تجاوز المدارس الكلامية المتقدمة كالمعتزلة والجهمية والأشاعرة، التي لم تزل أقسامنا العلمية مرتهنة لإشكالاتها العقدية كمادة للدرس العقدي! والإعراض عن البحث في الإشكالات العقدية والفكرية المعاصرة.. هذا جانب في التطوير، وجانب آخر يتمثل في تطوير الدرس الشرعي عمومًا. ففي الجامعة لم نزل حتى اليوم نسير على الطريقة التقليدية القديمة؛ فلا تكاد تجد فرقًا في كثير من الجامعات بين حِلق المساجد وقاعات الدراسة!!
* واقع الحال يؤكد أن بعض كليات الشريعة تواجه مشكلة ضعف المدخلات من الطلاب، بل إنها في معظم الأحيان تصبح هي الخيار الأخير المتبقي لدى الطلاب عند تحديد الرغبة لحظة التسجيل بالجامعة.. ما رأيكم؟
- لا أعتقد أن هذا الكلام دقيق؛ فكثير من الكليات الشرعية تواجه اليوم إقبالاً كبيرًا، يتجاوز طاقتها الاستيعابية، بل في بعض المناطق تأتي في المرتبة الثانية بعد كليات الطب. لكن الإشكال تباين المخرجات بين الكليات في الجامعات؛ والسبب في هذا الضعف والتباين تتجاذبه عوامل كثيرة، مثل تراجع مخرجات التعليم العام، ونحو ذلك.. لكن من أبرز الأسباب إخضاع هذه الكليات لحاجة سوق العمل؛ فصار التركيز لدى الطلاب على رفع المعدلات، وتحصيل التقديرات دون الاشتغال على بناء أنفسهم، وتطوير أدواتهم العلمية بشكل جيد؛ فضعف المخرج، وتراجعت التخصصات الشرعية المختلفة: الفقهية، والعقدية، والحديثية.. ونحو ذلك.
عمومًا، أعتقد أنه إذا ركزنا على صناعة طالب علم متميز متكامل الأدوات العلمية دون مراعاة أي أمر آخر فإننا في النهاية سنحقق كل المتطلبات من تعلم علوم الشريعة، وسنحقق كذلك متطلب سوق العمل بجودة المنتج، ونحقق قبل ذلك متطلب ضرورة صناعة علماء للشريعة في هذا البلد الذي كانت الشريعة - وما زالت - عماده وأساسه.
* البعض يرى أن التطرف الديني تسرب إلى الكليات الشرعية على الرغم من وجود العلماء والمتخصصين.. كيف قاومتم الفكر المتطرف بين الدارسين والدارسات بالجامعة؟
- مشكلتنا دائمًا مع هذا (البعض) الذي يجازف بإطلاق مثل هذه الأحكام، فضلاً عن أن الواقع خلاف هذا تمامًا؛ فكثير من سدنة التطرف والغلو هم نتاج تخصصات عملية وتجريبية.
والواقع يؤكد ذلك. وكذلك الكثير من الدراسات العلمية تؤكد ذلك. فمثلاً هناك دراسة بعنوان (جهاد المهندسين)، أجراها باحثان اجتماعيان في بريطانيا على الأعضاء الملتحقين بتنظيمات الغلو والتطرف مثل جماعة القاعدة وجماعة التكفير والهجرة في مصر، وخلص الباحثان إلى أن (53 %) منهم من تخصصات تجريبية وعلمية، بينما كان (26 %) من التخصصات النظرية، ومنها الشرعية، وتوزعت باقي النسبة بين تخصصات مختلفة!! ولدي تفسير لهذا؛ فالعقل العلمي التجريبي لا يتعامل مع النصوص إلا وفق العقل الرياضي، أو وفق نظرية الثنائيات: الحق والباطل، والصحيح والفاسد. بينما العقل الشرعي متعدد الخيارات، وواسع المساحات. إذًا فأستطيع أن أقول بكل ثقة: إن العلم الشرعي الصحيح هو خط الدفاع الأول في مقاومة أفكار التطرف والغلو.
* باعتبارك أستاذًا متخصصًا في الشريعة الإسلامية، كيف تنظر إلى الاتهامات التي توجَّه لشريعتنا الغراء بعدم صلاحية أحكامها للتطبيق في هذا العصر؟
- هذه الاتهامات تأتي دائمًا من العقل العلماني الذي يحمل مواقف مسبقة تجاه الشريعة، ولا يرحب بأي تطبيق صحيح للشريعة، بل يحاول دائمًا أن يحشد الممارسات الخاطئة على أنها من صلب الشريعة؛ وبالتالي فلا فائدة من إقناع هؤلاء، لكن الذي يهمنا هو جمهور المسلمين. وواجبنا نحن المتخصصين في الشريعة أن نقدم لهم الشريعة غضة طرية كما نزلت على محمد -صلى الله عليه وسلم-. والخطورة حقًّا حينما نحرص على آرائنا واختياراتنا، ونحميها من النقد والمراجعة على حساب الشريعة؛ فيأتي أقوام يظنون بالشريعة ظن السوء نتيجة هذه الآراء والأقوال. والحقيقة إنها ما هي من الشريعة في شيء.
* من الملاحظ أن فقه الأولويات غائب عن منهج العاملين في الحقل الدعوي؛ إذ يشغلون الناس بتوافه الأمور، ويهملون ما يستحق الاهتمام.. كيف ترسخ الكليات الشرعية أهمية فقه الأولويات للدارسين فيها؟
- يمكن للكليات أن ترسخ فقه الأولويات لدى طلابها حينما تقرر السيرة النبوية عليهم كمقرر إجباري، يستلهم الطلاب من خلالها منهج المعلم الأول صلى الله عليه وسلم، وكيف كان يدعو الناس؟ وما هي أولوياته في الدعوة؟ لكن من المهم التأكيد هنا أن الدعوة في أصلها تكون من المسلم للكافر، أما في المجتمعات المسلمة فتتحول الدعوة إلى إفشاء العلم وبيانه للناس. ولم يحصل في القرون الأولى كما هو حاصل الآن من العبث المعرفي بهذا المصطلح، حتى بلغ الأمر أن صار هذا المصطلح يطلق في كثير من الأحيان على القصاص وبعض الجهلة ومدعي العلم، وصار هذا اللقب (الداعية) مسوغًا لكل من ضعف علمه وكثر كلامه وقلّ فقهه بأن يقفز إلى منابر الإعلام ومحاريب المساجد بحجة أنه داعية! يمنحه اللقب كل ما يريد.. هذا الاستطراد ألجأ إليه مصطلح الداعية. ولنعد إلى قراءة السيرة؛ فهي - كما قلت - معين لا ينضب في فقه الأولويات، غير أن الإشكال في قراءة السيرة هي التوظيفات والاسقاطات الخاطئة على مشاهد السيرة ومواقفها؛ فتكون القراءة هنا انتقائية صرفة.
* يرى البعض أن المؤسسات الشرعية فشلت في مواجهة جماعات الضلال الديني داخل المملكة وخارجها.. ما أسباب ذلك؟
- لا أعتقد أن هذا الكلام صحيح؛ فالمؤسسات الشرعية تقوم بدورها الضخم في مواجهة ومقاومة تنظيمات التطرف والعنف، لكن ينقصها - في تقديري - الآلة الإعلامية المحترفة في نشر هذه الجهود، إضافة إلى عدم تحديثها لأدواتها العلمية، خاصة في خطابها الشرعي الموجَّه لمواجهة العنف وأدبياته. فهناك بطء شديد في هذا التحديث.
أما أنها فشلت في المواجهة فهذا غير صحيح مطلقًا. ولعلي أضرب مثالاً: يوم ضربت القاعدة هذا البلد عام 1423 - 1424، وانحاز بعض من ينتمون للدعوة - من أهل الجهل - إلى خطابها كان المجتمع على وشك انشطار حاد، لكن بفضل الله تعالى ثم بفضل علمائنا الكبار الذين كشفوا القناع عن هذه الفئة المارقة تم عزل هذه الفئة، وتبين للناس عوارها وبغيها. هذا على الصعيد الشرعي الفكري، أما على الصعيد الأمني فقد كان رجال أمننا على خط النار، يحملون أرواحهم على أكفهم.. منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلاً.
* كثرت الشكوى من الفتاوى العشوائية التي تبثها كثير من الفضائيات.. من وجهة نظرك بوصفك متخصصًا في العلوم الشرعية، ما خطورة هذه الفتاوى غير المنضبطة على عقول المسلمين؟
- مشكلة الفتوى مشكلة ضخمة، لا أعتقد أنني قادر على الإجابة عنها في هذه المساحة، لكن أشير إشارة سريعة إلى أن من أبرز مشكلات الفتوى عندنا هي إشكالية مصطلح الداعية الذي أشرت إليه سابقًا؛ لأنه هو الباب الذي يتسلل منه أدعياء العلم. ومنها أن منهجية الفتوى لدينا لم تضبط بعد؛ فلم تكن الفتوى سابقًا على هذا النحو الذي عليه اليوم حتى تشكل الناس على ما سماه بعضهم بالشكل العلمي؛ فصاروا يستفتون في كل شيء، ويسألون عن كل شيء، وبعض المفتين لا يستنكف عن الجواب أبدًا؛ فغابت عنهم (لا أدري)، و(لا أعلم).. فأصيبت مقاتلهم.
* يعاني شبابنا من تسطيح للوعي وغياب واضح لمنظومة الأخلاق.. كيف نعيد هذه المنظومة لمجتمعنا من جديد؟
- ما دمنا تكلمنا عن فقه الأولويات فدعني أجيب عن الأهم في السؤال هنا، وهو منظومة الأخلاق، وكيف نعيد هذه المنظومة لمجتمعنا من جديد؟ طبعًا ليست هي غائبة حتى تعود؛ فهي حاضرة -بحمد الله- لكن المقصود من السؤال كيف نعيد فاعليتها وحضورها في المجتمع؟ والجواب عن هذا في غاية السهولة، وهو أن نصحح مفهوم التدين وفق مراد الشريعة لا على وفق أعرافنا وعاداتنا؛ فالتدين السابق، خاصة في الخطاب الحركي، عزل الأخلاق عن مفهوم التدين، وصار الرجل صاحب الخلق الحسن الذي يفيض محبة للناس وسلامة لهم لا يمكن أن يستحق هذا الوصف (متدين) ما دام أنه قد تخلف فيه شروط التدين التي وضعوها بحسب مقاييسهم المعروفة.