ليست زيارتي الأولى لتلك المدينة الضاربة في العمق والتاريخ، ولا أريد لها أن تكون الأخيرة؛ «فقطب الذوق، وحضن الحرية ومليكة القصيم، وباريس نجد» كانت - وما زالت وستظل - مهوى أفئدة عشاق الحياة ومريدي الحرية والثقافة.. وكما أُسر المؤرخ الريحاني بـ»الكلمة الطيبة» أسرتني عنيزة بكل تجلياتها ومعانيها بدءاً من الكرم النجدي الذي يغمرك من أول هاتف للدعوة حتى تشد الرحال مودعاً شرفاتها المطلة على الغيم والجمال..
ولكن من أي شرفة أدلف للضوء، وكيف يكون الحديث عن السماء حين تتجلى على شكل مدينة فاخرة؟!
هبطت الطائرة ظهراً. كان الجو دافئاً، والريح ساكنة إلا من حفيف هادئ، يهدهد أوردة القلب.. تدلف بوابات الفندق فيعانقك السخاء، وتصافحك المودة، ويحتفي بك طيب الوصال.
أي دهشة أنتِ يا عنيزة؟! تتجلى روعة الجواب في ملامح مركزها التنويري البهيج (مركز الأميرة نورة بنت عبدالرحمن الثقافي)، ذلك الصرح الذي أتمنى لو اتخذته المؤسسات الحكومية نموذجاً معتمداً لخدمات المرأة والطفل، وعممت تجربته على المناطق والمحافظات..
ولا أدري عن أي مفازات المركز أتحدث؟ هل عن الجهود المبذولة؟ أم عن القيادات الشابة المخلصة؟ أم عن المرافق والخدمات وبرامج العمل؟ إن أي حديث مقتضب الآن سيظلم المركز، ويحط من قيمة الجهود؛ إذ لا يمكن لعبارات مختصرة أن تترجم واقعاً هو أشبه بالخيال، وتنتصف لشابات نذرن أوقاتهن وخبراتهن لخدمة الوطن.. وليس راءٍ كمن سمع!
وإني لأدعو جميع سيدات القصيم والوطن لزيارة المركز والاستفادة من تجاربه الثرية المقدمة، بدءاً بالمكتبة الفارهة، وليس انتهاءً بالنوادي الرياضية والصحية.
ولا أنسى وقد أتيت على ذكر المركز تلك الزاوية الغامرة بالنور التي تتحلق حولها النسوة في جلال مهيب؛ ليمنحن العابرات خلاصة أفكارهن وتجاربهن وشهد حديثهن.. إنها حيث تعتمر الجالسات الود، وتتدثرن البسمة واسماتٍ مجلسهن بنادي رفاق للمتقاعدات، وهن - والله - الرفيقات اللواتي لا تمل صحبتهن.
عنيزة بمهرجانها الثقافي السادس، وبجمعيتها الصالحية، ومركزها الثقافي، لا تقدم نموذجاً ثقافياً وحسب؛ بل تمتد لأبعد من ذلك؛ فهنا تتجلى عنيزة الإنسان قبل المكان.. الإنسان العاشق للأرض المحب للعطاء والبذل والإنجاز.. الأمر الذي يلمسه كل زوار عنيزة وضيوف مهرجانها البديع؛ فليست الرغبة في النجاح من تصنع تلك اللحمة الدافئة، وليس الطموح وحده من يقود لمثل ذلك التألق والإبداع! فأبناء عنيزة أبناء رحمٍ واحدة، يجتمعون على الحب، ولا يفترقون إلا ليكبر ويتسع! الحب الذي أحال مدينتهم «معشوقتهم» مشعلاً للعلم والنور والعطاء.. وكما تتسع عنيزة لإنسانها تتسع لعشاقها من مثقفين وفنانين وأدباء، وتحتمل هناتهم وتقصيرهم في السمو لسماوات روعتها.. ولعلها بذلك تحتمل عجزي وتغفر تقصير حروفي وجفاف مدادي.. والسلام على عنيزة إنساناً ومكاناً، نخلة وتمراً نضيدًا، جمعية ومركزاً ومنارات للهدى والنور.. السلام على سيداتها المانحات المخلصات ورحمة الله وبركاته.
- شقراء المدخلية