لم تظهر العولمة فجأة كمصطلح وكمفهوم ثقافي ؛ بل كانت من نتائج تفاعل المجتمعات الإنسانية سلمًا أو حربًا، ولكن العصور الحديثة شهدت ألوانًا من التدافع والاحتكاك والتقارب أوجدته وسائل الاتصال الحديثة التي ألغت المسافات المكانية والزمانية.
ولكن العولمة كما يرى الدكتور أحمد الضبيب في كتابه (اللغة العربية في عصر العولمة) هي هيمنة دول الشمال المتقدمة على دول الجنوب النامية أو المتخلفة بفرض شروط اقتصادية وسياسية وثقافية. ومن هنا تأتي الخطورة التي تعاني منها الأمم النامية أو المتخلفة فهي مهددة بالذوبان والاندماج في غيرها بحيث تذهب بخصائصها وتطمس تاريخها ويغير ملامحها ويجعلها على هامش غيرها ملحقة به تابعة كل التبعية.
ولما كانت اللغة من أهم مكونات هوية الأمة كان لنا أن نتساءل كما يتساءل كل غيور:
هل تواجه اللغة العربية تحديًا في عصر العولمة؟
وهل يمكن أن تصمد اللغة العربية طويلاً ؟!
وماهو دور التعليم في الحفاظ على هويتنا اللغوية والثقافية؟
هذه الأسئلة شغلت عقول وأقلام المفكرين العرب ردحاً من الزمن ، وكانت الأطروحات الثقافية تتراوح مابين طرح عاطفي ينحاز للغة العربية دون تقدير لما يحدث من تراجع ملحوظ لها، وبين طرح عقلاني ذي صوت خافت يقترح الحلول ويقرأ الحاضر ويتنبأ بالمستقبل ولكن ليس بيده قرار سياسي يساعد على التنفيذ.
وبسبب الغلبة الثقافية والسياسية والاقتصادية لبعض الأمم فإنها تفرض لغتها بلاشك على الأمم التابعة لها، فالإنجليزية كلغة أولى متداولة عالمياً تغللت في حياة كثير من الأمم ومنهم العرب بدءاً بالهامبرجر ومروراً بلغة الطب والمخترعات وانتهاء بلغة وسائل التواصل الحديثة، فاللغة العربية حالها من حال الأمم تقوى بقوتها وتضعف بضعفها ، ونحن لا نتوقع أن يعود العرب في ظل الظروف الراهنة إلى الهيمنة على العالم - كما كنا في السابق - ولكن بمقدورهم نشر لغتهم وتقويتها كلغة باقية لأن الله سبحانه وتعالى تعهد بحفظ القرآن الكريم وبالتالي لغته العربية، وأولى الخطوات هي تطوير المقررات والمناهج الدراسية الخاصة باللغة العربية وإبعادها عن الجمود في الطرح وربطها بحياتهم اليومية، وقد تبنت وزارة التعليم هذا المبدأ بطرح «مشروع تحسين مستوى طلاب التعليم العام في اللغة العربية في الدول الأعضاء بمكتب التربية العربي لدول الخليج» وكان من ثماره هذه المقررات الحديثة للغة العربية ، ورغم الجهود التي تبذل في مقررات لغتي الجميلة في المرحلة الابتدائية ولغتي الخالدة في المرحلة المتوسطة ومقرر الكفايات اللغوية في المرحلة الثانوية (نظام مقررات ) واللغة العربية ( نحو وصرف ، وأدب ، وقراءة وتواصل لغوي ) وتحولها إلى المنهج الشامل (الوحدات) وفق النظرية البنائية إلا إن المخرجات لا تزال ضعيفة ، ولعل الأسباب في هذا الضعف لايعود إلى المقررات فقط فتأهيل المعلمين وتدريبهم على فلسفة المقررات الجديدة سبب رئيس، كذلك نظام التقويم المعمول به حالياً من الأسباب الملحوظة، وضعف شراكة الأسرة مع المدرسة من الأسباب العامة أيضاً. وثاني الخطوات التي ربما ستنهض باللغة العربية من وجهة نظري هي استغلال القوة الاقتصادية لبلادنا وفرض تعلم اللغة العربية كشرط لاستقدام العمالة، وما يتطلبه ذلك من افتتاح معاهد لتعليم اللغة العربية في تلك الدول والتي تشكل رقماً عالمياً لا يستهان به. وهذا الإجراء عملت به دول تعتز بلغتها كألمانيا وفرنسا، ونحن إن لم نستغل قوتنا الاقتصادية حالياً لخدمة لغتنا فمتى نستغلها؟
ومن الخطوات التي تبدأ بقرار سياسي أولاً لتقوية وضع لغتنا الخالدة هي منع مسميات المحلات التجارية الماركات المحلية بأسماء أجنبية وفرض الأسماء العربية، أيضاً تعريب مواقع وروابط الإنترنت ،واستبعاد شرط اللغة الإنجليزية من التوظيف والدراسات العليا في التخصصات التي لا تحتاج إليها، وعلينا أيضاً كعرب نشر ثقافتنا وتراثنا الجميل في المناسبات العالمية في دول العالم وهذا مما يساهم في نشر اللغة العربية، وفي هذا السياق تبرز جهود كثير من الدول العربية للحفاظ على هوية اللغة العربية ، حيث تهتم بلادنا المملكة العربية السعودية ولله الحمد باللغة العربية وأن ذلك تجلى ابتداءً من المادة الأولى للنظام الأساسي للحكم التي تنص على أن اللغة العربية هي لغة الدولة ، وأيضاً عبر انتشار المدارس السعودية بالخارج والتي تحرص على تعليمها والذود عنها، وإيفاد المعلمين السعوديين للتدريس هناك، كذلك تنتشر معاهد اللغة لغير الناطقين بها، وتبني بعض الكراسي البحثية. وتبرز مبادرات كثيرة في بلادنا لهذا الغرض مثل فكرة مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية، وكذلك الرؤية السياسية لم تغفل عن دعم حضور اللغة العربية، وذلك في نصوص أكدت عليها رؤية الوطن في 20 30. واحتفال بلادنا سنوياً باليوم العالمي للغة العربية الذي جاء في 18 ديسمبر الماضي، ونشر العديد من البحوث والدراسات التي تعنى باللغة العربية ، وكثرة الأقسام الجامعية المتخصصة باللغة العربية، وانتشار الأندية الأدبية في بلادنا ، ووجود فرع في جائزة الملك فيصل مخصص للغة العربية والأدب. ومشاركة المملكة الدائمة في المنظمات والملتقيات العربية والدولية التي تعنى باللغة العربية.
فتحية إجلال لكل الغيورين على هذه اللغة الخالدة التي استوعبت أعظم الكتب السماوية واستوعبت حضارة امتدت على مدى زمني وجغرافي لا مثيل له، وهمسة محبة في آذان أبنائها العاقين لها:
عودوا إلى حضنها ، فالتبعية للغات الأجنبية لا تعني تطوراً بل تبعية وفقدان تدريجي للهوية ولن يضر لغتنا ذلك ..
ياناطح الجبل العالي ليكلمه
اشفق على الرأس لا تشفق على الجبل.
** **
- منيف خضير الضوي
Mk4004@hotmail.com