د. حمزة السالم
كل المعاملات التبادلية المالية يلزم منها تولد قيمة زائدة عن المال المتبادل. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} كما أنه لا يُتخيل أن يجلس عاقلان يتبادلان في مجلس واحد مالان متماثلان تماما في كل شيء. وربنا جل شأنه، بنص الآية الصريح، قد حرم الله أخذ هذه الزيادة الناتجة مطلقا، إلا ما عفا الله عن الزيادة المتولدة من المعاملات التبادلية التجارية (التعاوضية). ثم جاءت الأحكام التشريعية في المدينة فنسخت من عموم العفو عن التجارة فحرمت التبادل بأموال معينة بنفس أجناسها وهي الأصناف الستة.
فما لم يكن من التعاملات التعاوضية (التجارة بمفهومها الواسع) فيدخل تحت باب القرض وما كان من تعامل تجاري مالي ولو لتحصيل مصالح غير إحسان ومعروف وصدقة ونحوها فهو من باب البيع.
فالوديعة والعارية هي معاملات تبادلية مالية ليست من التجارة، يتولد منها منفعة مالية ومنفعة غير مالية ذاتا قيمة، فهي إذا من باب القرض. وتدخل في التحريم العام الذي في القران الذي يُحرم على الطرف المُحسن أخذ أي زيادة قيمة ناتجة منها، بينما يحل أخذها للمُحسن إليه. ودليل حلها للمحسن إليه قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}، وقوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ} فيه إقرار لأخذ، المقترض دون المُقرض، الزيادة الناتجة عن العملية التبادلية المالية.
فالوديعة والعارية صورة من صور القرض. وميزها اللسان البشري باسمين مختلفين عن القرض، لمخالفتهما القرض في ثلاثة أمور شكلية لا يتعلق بهما حكم الربا. بينما جمع الشرع الوديعة والعارية مع القرض لاشتراكهما في أمرين هما محل حكم وقوع الربا وتكييف المعاملة المالية التبادلية.
فأما الثلاثة أمور التي تخالف الوديعة والعارية فيهما القرض، ولا يتعلق بهما حكم الربا:
فالأول: أن العوض في الوديعة والعارية يكون هو عين المال نفسه، لا بدله كما في القرض، إلا إذا هلك المال المُعار أو الوديعة بإهمال من المستعير أو المُستودع، فيلزمه عوض مكافئ له.
والثاني: أن القرض عادة لا يخرج عن كونه صدقة بدفع حاجة كرب أو عوز فقير. وأما الوديعة والعارية يكثر فيها دخول صدقة الإحسان والمعروف بين الأنداد، كما يكثر فيها دخول فيها صدقة دفع الكرب أو العوز عن مكروب أو فقير.
والثالث: أن القرض يمكن وقوعه حاضرا أو نسيئة، بينما الوديعة والعارية لا يمكن وقوعها إلا نسيئة، أي في معاملة تبادل يُرد فيه المال بعد زمن، طال أو قصر. (وإمكانية وقوع القرض حاضرا هو ما تدل عليه نصوص الوحي صراحة ويدل عليه الواقع، ولا محل لتبيينه هنا)
وتجتمع الوديعة والعارية مع القرض في أمرين:
الأول: في دلالة الحال للتفريق بين بينها وبين المعاملة التعاوضية التي تدخل تحت عموم البيع. فدلالة الحال تبين الفرق بين القرض والبيع، وبين العارية والإجارة، وبين الوديعة والمضاربة بالإدارة أو الحفظ، وبين الادخار والاحتكار. فالفرق المُعتمد يدل عليه دلالة حال المعاملة، لا نية أو مزاعم المتعاملين. فمقاصد شرع ربنا حقيقة واقعية، لا صورة خداعية. يميزها بالفطرة, الصبي السفيه والمعتوه، ويخفى عن كل من تذاكى على الله فختم على قلبه وسمعه وبصره فانطمست فطرته.
الثاني: في التصدق بالزمن وتبعياته. كنقص في قيمة العارية بسبب استهلاك المستعير لها زمن استعارته، كما هو التصدق بنقص القيمة الشرائية للقرض.