تتعدد الأسباب -ليست جميعها في صالح البحث العلمي- التي تفضي إلى وقوع الباحث العربي (في العلوم الإنسانية عامة, وفيما يخص البحث العلمي في الأدب العربي والنقد خاصة) في عدد من الخطايا القاتلة، أسباب راجعة إلى ضعف مستوى البحث العلمي عند بعض الشباب، أو النشأة على غير أساس علمي عند من هم أسبق منهم إلى هذا المضمار مما يجعلهم يستمرئون الخطأ ولا يكلفون أنفسهم قدرا من المراجعة والتدقيق, ولأن الأسباب في مجملها واسعة -تتمدد على مساحة وطننا العربي في معظم جغرافيته- وفي تفاصيلها تستدعي دراسة أكبر لا يتسع لها المجال الآن.
الخطايا في معظمها إجرائية تنال من قيمة الباحث أولا ومن بحثه ثانيا، وتفضي إلى وقوع اللاحقين في الخطايا نفسها مما ينال بدوره من البحث العلمي في الأدب العربي كله، وهو ما أدى إلى وجود عشرات الرسائل التي لا نفع منها بالمرة، ومن أبرز هذه الخطايا:
البدء من حيث بدأ السابقون لا من حيث انتهوا: يصر كثير من الباحثين على بداية مشوار العلم من أوله، موضوع في المكان الروائي مثلا, يروح الباحث يتقصى بدايات دراسة المكان في الرواية مستهلكا وقته وطاقته في كتابة كل ما سبقه, دون أن يضيف شيئا جديدا معتقدا كونه بذلك وفيا لموضوعه، مضيفا لما سبقه من جهد علمي، وكأنه يفتقد معرفة طريقه إلى موضوعه.
اختيار الموضوع: يعتقد الباحث العربي أن الفكرة هي الأساس، غير مدرك لحقيقة «كم من أفكار عظيمة أفسدها الباحثون، وكم من أفكار بسيطة حقق منها باحثون آخرون إنجازاتهم العلمية الكبرى»، إن فكرة بسيطة تخدمها وتضيف من خلالها أهم بكثير من فكرة تعتقد جدتها وجودتها لا تخدمها ولا تضيف فيها جديدا.
غياب الخلفية المعرفية: يحدث هذا كثيرا في مجال دراسة الرواية؛ حيث يقدم باحث على الكتابة في هذا الفن وهو لم يقرأ رواية واحدة في حياته وأول رواية يعرفها تكون واحدة من روايات دراسته، مما يجعله يتعجل في تسجيل الموضوع قبل تكوين الخلفية اللازمة, وهو ما يعني شعور بالتورط يكون له سلبياته على مستقبل البحث بكامله.
افتقاد الأدوات الأساسية في البحث: من المراجع ما لا يمكن للباحث الاستغناء عنها (الببليوجرافيات- كتب المصطلحات - المعاجم)، الأولى تؤمن عدم تكرار الموضوع، الثانية تحرر مصطلحاته وتدققها، الثالثة تعمل على ضبط لغته العلمية، وحين تغيب الثلاثة تلقي بظلالها السلبية على البحث، تتكرر الموضوعات، وتختل المصطلحات, وتفقد اللغة قدرتها على تقديم عمل علمي منضبط. غياب المنهجية في الجانب المعلوماتي في البحث: ما نكتبه في النقد آراء قابلة للتغيير والتطوير، غير أن الجانب المعلوماتي ليس كذلك، وهو الجانب الذي يمثل نوعا من الاستفادة الدائمة (في بعض الرسائل تكون قائمة المصادر والمراجع هي الإفادة الوحيدة من رسالة ما) تغيب المنهجية في كيفية تحديد (الدراسات السابقة - المصادر والمراجع) في الأولى نتحرك من الخاص للعام, رسالة عنوانها «صورة الفلاح في الرواية العربية»، المجال الخاص (صورة الفلاح)، والعام (الرواية)، في الدراسات السابقة نتحرك من الخاص حيث ننشغل بما كتب عن الفلاح في الرواية، وفي تحديد المصادر والمراجع ننشغل بالعام أي بما كتب عن الرواية، ويغيب عن الباحث أن الدراسات السابقة يمكن أن تكون مراجع ولكن ليست كل المراجع دراسات سابقة، وحين تغيب المنهجية يختل توازن البحث ويصاب بالترهل وهو ما يقع فيه كثير من الباحثين.
افتقاد التوثيق: لا يدرك الباحث قيمة الجانب المعلوماتي في موضوع يتحمل عبء البحث فيه، فلا يهتم بتوثيق مرجعياته ومصادره، ويلجأ بعضهم إلى تقنية (الفابركيشن) أي اختلاق مراجع أو مواضع محددة من مراجع معروفة ولكن يستحيل التوصل لما يشير إليه, وهي واحدة من أكبر الخطايا التي يواقعها كبار من الباحثين العرب.
إصدار أحكام غير مدلل عليها وغير موثقة: يكثر بعض الباحثين من إطلاق أحكام لا دليل عليها، تجد أحدهم يردد: «قال النقاد», أو «أجمع النقاد», أو «أشار أحد الباحثين «, ولا يكلف نفسه توثيق ما قال، مما يجعل من مقولاته مجرد ادعاءات لا مجال للعمل بها أو الالتزام بأحكامها.
أخطاء اللغة: تعاني الرسائل العلمية الحديثة كمًا لا قبل لأي عصر به من أخطاء اللغة وافتقاد لغة البحث العلمي المنضبطة، المقننة، المحددة هدفا وموضوعا، وهي آفة تتكرر عند معظم أجيال الشباب من الباحثين.
فقر الهوامش: حين تكتفي الهوامش بتوثيق ما ورد في المتن فقط فإنها تعاني الفقر, مما يعني ضيق أفق الباحث وعدم قدرته الاشتباك مع موضوع بحثه بقدر يؤكد جدارته بالبحث ووعيه بجوانب قضيته.
معيار الكم لا الكيف : يقع كثير من الباحثين في الاعتقاد أن الكم معيار للحكم على الرسالة، فتأتي رسائلهم العلمية كما فائضا عن حاجة البحث، وهو ما يرجع لعدد من الأسباب: التحليل المدرسي للنصوص، العمل بصورة رأسية وليست أفقية، ويغيب عن الباحث الطريقة المثلى للبحث في نصوص شاعر أو روائي، أن يقرأ نصوصه كلها بوصفها ديوانا واحدا, أو رواياته كلها بوصفها رواية واحدة متعددة الفصول، (وأن يقرأ ديوان الشاعر بوصفه قصيدة واحدة)، تنجو من ذلك -إلى حد كبير- جامعات المغرب العربي التي تجد فيها رسالة أو أكثر على نص واحد باعتماد مناهج مختلفة وهو ما تفتقده جامعات مصر والمشرق؛ إذ يسود الاعتقاد أن خمس روايات مثلا لا تقيم بحثا.
قد تبدو الملاحظات هينة إن لم توضع في عين الاعتبار, ولم نلتفت إلى ما يترتب عليها على المدى البعيد.
... ... ...
- د. مصطفى الضبع
** **
للتواصل مع (باحثون)
multaqa38@gmail.com