كثيرا ما يتردد أن الرواية غزت ديوان الشعر. وكثيرا ما نسمع أن عصرنا هو عصر الرواية لا الشعر..
نأخذ هذه العبارة مقولة مسلمة، في حين أنها تحتاج إلى تفصيلات وتساؤلات، منها مثلا: أين؟ ومتى؟ أفي العالم كله؟ أم في العالم العربي؟ أفي الخليج العربي؟ أم في المملكة وحدها؟
ومتى؟ أفي العصر الحديث؟ وعن أي فترة تحديدا؟ في القرن العشرين؟ الألفية الجديدة؟ العشر أو الخمس السنوات الأخيرة؟
وهل المقصود بغزو الرواية إزاحتها لديوان الشعر من الساحة؟ أم التعايش معه ومزاحمته؟
وهل المقصود بالغزو الروائي كثرة الكتب أم الكتّاب؟ أم كثرة القراء؟
ثم ما هو الشعر الذي غزته الرواية؟ أهو الشعر الخليلي؟ أم يدخل في ذلك ما يسمى بـ«الشعر المنثور»؟ وهل يشمل ذلك الشعر العامي؟
وأخيرا هل بُنيت هذه الجملة على إحصاءات؟
كم عدد الدواوين؟ وكم عدد الروايات في الفترة المستهدفة؟ وهل نقتصر على المطبوع في كتب ورقية ونتناسى ما ينشر في وسائل النشر الإلكترونية؟
ومقولة إن الشعر بدأ فترة انحسار أمام السرد ليست جديدة، فقد نشر نجيب محفوظ رأيه في هذا الموضوع في مجلة (الرسالة) عام 1945- أي قبل تحقيقه الشهرة العالمية في مجال الرواية - فقال: «لقد ساد الشعر في عصور الفطرة والأساطير، أما هذا العصر- عصر العلم والصناعة والحقائق - فيحتاج لفن جديد، يوفق على قدر الطاقة بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنينه القديم إلى الخيال، وقد وجد العصر بغيته في القصة، فإذا تأخر الشعر عنها في مجال الانتشار فليس لأنه أرقى من حيث الزمن، ولكن تنقصه بعض العناصر التي تجعله موائما للعصر، فالقصة على هذا الرأي هي شعر الدنيا الحديث.» فنجيب محفوظ يرجع الأمر إلى التقدم العلمي وإلى تغير في طبائع الناس.
وإليكم رأيا آخر لروائي معاصر هو شكري المبخوت إذ يقول: «الشعر تمرين بلاغي؛ بينما الرواية هي أم الحقيقة الإنسانية العميقة»..
ولعل في مقولة الدكتور عبد الله المعيقل التالية ما يوضح ما عناه المبخوت: «إن مشكلة الشعر الحديث ليس في مزاحمة الرواية له وإنما في طبيعته التي يغلب عليها الرمز والغموض وعدم المباشرة والاحتفاء بالإيحاء دون القول، فهو بهذا إنما يتوجه إلى قارئ نخبوي والنخبة فئة قليلة، بينما قارئ الرواية من الممكن أن يكون من محدودي الثقافة ومع ذلك لا يجد أدنى صعوبة في التفاعل مع رواية وقراءتها والاستمتاع بها».
فهو إذن يعيد الأمر لذائقة الجمهور وقلة النخبة من بينهم، ولذلك فهو يغلب جمهور الشعر الشعبي على جمهور الرواية لهذا السبب.
يقول: «وإذا نظرنا إلى جمهور الشعر الشعبي وكثرة مجلاته وقنواته وجدنا أنه أكثر عددا من جمهور الرواية ومن جمهور الشعر الفصيح فهل يجوز لنا أن نقول إنه زمن الشعر الشعبي؟». انتهى كلامه.
وخلاصة ما أود قوله: أننا إذا عددنا الشعر المنثور ضمن الشعر وأضفنا له الشعر الشعبي فلا بد أن نسلم بتواري الرواية وانحسارها أمام الشعر، فهما – الشعر المنثور والشعبي - اللذان غزوا الشعر الفصيح التقليدي والرواية معا. ولا عليك من عدد المطبوع من الكتب والدواوين فثلاثة أرباع كتاب الفيسبوك وعددهم بالملايين شعراء ناثرون وشعراء عاميون ولم يطبعوا كتبا.
إن الشعر التقليدي فن صعب ليس بمقدور كل من أراده إتقانه، وهو الذي عناه القرآن الكريم بقوله جل وعلا عن نبيه صلى الله عليه وسلم: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له).
وهو الذي عناه الراجز بقوله:
الشعر صعب وطويل سلمه
وما تعلق الشعراء الناثرين بتسمية فنهم شعرا إلا لاعترافهم برقي الشعر على سائر فنون القول. حتى الروائيون حينما يكتبون نجدهم يجنحون للكتابة الشعرية طلبا لشرف الشعر. مع أن المقولة بفضل الشعر على النثر غير صحيحة وتحتاج إلى مقالة أخرى!
** **
- سعد عبدالله الغريبي