«الجزيرة» - أحمد المغلوث:
شاهده خارجاً من كابينة الصراف وهو يهز رأسه بين فترة وأخرى، لم يكن من عادته أن يتدخل فيما يقوم به البعض من الناس من تصرفات.. كل واحد حر فيما يعمل.. يهز رأسه.. يحمله في يده يضعه جانباً.. يضع عليه غترته وعقاله.. أو يسير بشعره الغجري مكشوفاً.. أو يسير حتى بدون رأس.. تخيل أن ترى جميع من يسيرون في الطرقات بدون رؤوس.. لقد اختفت بقدرة قادر.. فهي رؤوس أينعت وحان قطافها من الهموم نتيجة لما حملته من متاعب.. المتاعب أحياناً تشكل ضغطاً كبيراً جداً على رأس الإنسان فتضغطه إلى الأسفل مثل ما يضغط الواحد منا رأس القلم فيندفع سريعاً إلى الأسفل.. هكذا تصور صاحبنا الناس في الطريق بدون رؤوس بعدما شاهد ذلك الرجل يهز رأسه أكثر من مرة وهو خارج من غرفة (الصراف).. ضحك في سره وهو يفكر في هذه التصورات وتلفّت ذات اليمين وذات الشمال وحمد الله أن لا أحد يستطيع أن يقرأ أفكاره، فربما أتهمه أحدهم بالجنون، أو على الأقل بمرض نفسي يجعله طول عمره حبيس المهدئات وربما حتى الجلسات الكهربائية.. أو ربما دخل مع الداخلين مستشفى الصحة النفسية.. وأصبر بعدها يا غزال لما تطلع.. شعر نحوه برثاء شديد.. لأنه كان يعلم أن تصرفات الرجل غير طبيعية.. واهتزاز رأسه بهذه الصورة أكيد يعني شيئاً.. وربما وراء الأكمة ما وراءها..؟!! هل يقترب منه ويسأله خير إن شاء الله.. تسأل وهو يقترب منه أكثر.. هل يفعلها ويطرح عليه السؤال الصعب.. خير.. عسى ما شر.؟! لكنه لم يجرؤ.. أمور كثيرة لا يستطيع أحد في مجتمعنا أن يطرحها على البعض.. أمور كثيرة تثير التساؤلات وحتى العجب العجاب ولا يمكن الاستفسار عنها.. على الرغم من الحوار الوطني والشفافية التي طالبتها قيادتنا الحكيمة.. بل وطرحتها للنقاش.. آه الشفافية.. يا الله إنها تشف أمامه الرجل الآن وتكشفه.. وتضعه داخل جهاز الأشعة الكمبيوترية لتضعه أمامه مكشوفاً عارياً وحوله أكوام من الهموم والمعاناة والديون والفواتير والرغبات المكبوتة التي وأدها ولم يستطع تحقيقها.. نعم لقد تناثرت حوله مع كل هزة منه لرأسه التعب والمجهد.. أشياء استطاع أن تكشفها له الشفافية الشعاعية.. وأشياء شاهدها حوله لكنه لم يستطع معرفتها فكل ما يحويه رأس الرجل المهموم.. باتت كالهباب المتطاير وغير المنظور...؟!! كما تطايرت مليارات الفساد التي تم اختلاسها من خير الوطن بعدما وثق الوطن فيهم بل وأكرمهم خير إكرام وعزز من شأنهم وجعلهم في أرفع الأاكن والمسئوليات، لكنهم خانوا الأمانة وبددوا الثقة وتناسوا «الإيمان» العظيمة التي رددوها أمام القيادة.
وقبل هذا ساهموا في تأخر تنفيذ مشاريع الوطن وتسببوا في هدر «المال العام» وضياع حقوق المواطنين في العديد من مناطق المملكة المختلفة. كما ضاعت حقوق هذا الرجل البائس الذي خرج من كابينة الصراف وهو يهز رأسه نعم فهو يعبر عن واقعه، وربما واقع مئات الآلاف من المواطنين البسطاء الذين لا توجد في حساباتهم إلا اليسير وكما يقال : يا دوب تسدد لهم الفواتير. ومع هذا لا يملك بعضهم إلا أن يهز رأسه ويحمد الله أنه يعيش مستوراً وبكرامته. ويخطو نحو بيته سعيداً فعلى الأقل سدد فواتيره وفي جيبه بطاقة الصراف البسيطة.
وعندما أراد صاحبنا أن يضع بطاقته داخل الصراف.
لاحظ ورقة الرجل تتدلى من فتحة الجهاز.
مد يده المعروقة للورقة ورماها في سلة المهملات التي تناثرت حولها عشرات الأوراق.
وتذكّر لحظتها مقولة أحدهم: إن أوراق الصراف التي يتركها البعض في الجهاز أو يرميها في سلة المهملات.
هي في الغالب لا تحمل أرقاماً كبيرة.
بل أصحابها لا يفضلون مطالعتها كونهم يعرفون مسبقاً كم في أرصدتهم «الصفرية»، وبالتالي لا يفضلون مشاهدة «رصيد الحساب» فهم على علم دائم بما لديهم..؟!