يا غائباً في الثرى تبلى محاسنه
الله يوليك غفراناً وإحسانا
إن من سعادة الإنسان أن يعيش في هذا الوجود، ويحيا حياة اطمئنان وراحة بال، مُعرضاً عن مساوئ الناس، ومحباً لخيارهم عاطفاً على فقيرهم، ومحترماً لكبيرهم، وهذه من الصفات الحميدة التي تتجلى في شخص إبراهيم بن حمد الصقيه رفيق دربي في الحياة منذ عصر الطفولة والصِّبا إلى أن غاب عن أسرته وأحبته، حيث انتقل إلى رحمة الله إلى الدار الباقية (بعد شقيقيه يحيى الذي هو الاخر من رفاق العمر) فجر يوم الاثنين 19-1-1439هـ بعيداً عن أهله ووطنه بألمانيا، وهذا مصداق لقول الله جل ثناؤه: (وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) آخر سورة لقمان. وأديت صلاة الميت عليه بعد صلاة عصر يوم الثلاثاء 20-1-1439هـ بجامع الملك خالد بأم الحمام، ثم حُمل جثمانه الطاهر إلى محافظة حريملاء، ثم ووري الثرى في باطن الأرض بمقبرة (صفية) مضاجع الراحلين، بعد حياة كفاح وعمل مشرف - تغمده المولى بواسع رحمته ومغفرته - ولك أيها القارئ الكريم أن تتصور حال بنيه ومحبيه، وهم يحثون التراب على جدثه بعد إيداعه في لحده واختفائه عن نواظرهم، وبهم ما بهم من لوعات الحزن العميق، كان الله في عونهم.
يوم الوداع وهل أبقيت في خلدي
إلا الأسى في حنايا القلب يستعرُ
وكانت ولادته في أوائل الخمسينات في بلد «حليفه» بلد آبائه وأجداده، وقد باكره اليتم صغيراً بوفاة والده فاحتضنته والدته سارة المهيزعية – رحمهما الله – واعتنت بتربيته التربية الصالحة، وعند بلوغه السابعة من عمره ألحقته بإحدى الكتّاب لتعلم الخط والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، فلما كبر زاد إحساسه، وحزنه على فقد والده وهو يشاهد أقرانه يتمتعون بحنان والديهم مُجتمعين يُحققون متطلباتهم الحياتية والترفيهية، ولسان حاله يُردد هذا البيت:
نقل ركابك عن ربع ظمئت به
إلى الجناب الذي يهمي به المطر
فلم ير بداً من الشخوص نحو المنطقة الشرقية ملفياً على معالي الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن عدوان ممثل المملكة لدى شركة أرامكو علّه يجد عملاً يتناسب مع عمره الزمني فأحاله – رحمه الله – على رئيس مكتبه الخاص الشيخ /حمد بن علي المبارك، فرحب به، كما كان يرحب بجميع امثاله من أبناء المملكة بدون تميز لتوفر فرص الأعمال لدى الشركة – آنذاك – وحب مساعدة المحتاجين للعمل هناك, فاختار توجيهه الى جهة «الحُني» التابع للمنطقة الشرقية ليعمل بجانب شقيقه/ يحيى بن حمد الصقيه, ونظراً لصغر سنه ألحق بمدرسة فترة وجيزة، وظل معه فترة من الزمن يعمل بكل جدٍ وإخلاص، ومعلوم أن كل من عمل في شركة أرامكو استفاد مادياً ولغة اجنبية, لاحتكاكهم برؤسائهم في العمل حتى أن البعض الذي لا يحسن الكتابة ولا القراءة يكتسبونها محادثة ومشافهة, فالغربة تصقل مواهب الرجال وتثري ثقافاتهم كما هو معلوم, وبعد عودته من المنطقة اشترى له سيارة نقل يستعملها في نقل المسافرين والتردد ما بين الرياض وحريملاء والقرى المجاورة، ويعد من الأوائل في اقتناء سيارة، وكان سمحاً مع الركاب مراعياً حال الضعفاء يسامح الكثير منهم رجاء المثوبة من رب العباد، فَنَمتْ المادة لديه شاكراً المولى على إنعامه عليه, ثم توظف في مصلحة المياه بالرياض, ومكث مدة من الوقت, ثم انتقل الى بلدية الرياض واستمر يعمل بها الى أن تقاعد, ولقد رزقه المولى ذرية صالحة بنين وبنات خلفه أبناؤه للعمل في شؤونه الخاصة, فتفرغ لعباده الله, وقراءة ما تيسر من القرآن الكريم داخل المسجد , وفي منزله وقت فراغه , وكان يقضي معظم اوقاته باستراحته بحريملاء الحافلة بأعداد كبيرة من النخيل المثمرة , وما يتخللها من أشجار وفواكه.., فيستقبل أصحابه وأقاربه في أوقات الآصال, وفي أوائل الليل حيث يحْلو السمر, وتبادل الأحاديث الودية والطرائف المقبولة:
وما بقيت من اللذات إلّا
محادثة الرجال ذوي العقول
ولقد قضى حياته محبوباً لدى رفاقه ومعارفه، آسفين على رحيله وبعده عن نواظرهم، لطيب معشره ودماثة خلقه ولين جانبه، ولي معه بعض ذكريات الصِّغر، وما جرى بيننا فيها من طرائف، أذكر أثناء قيامنا برحلة برية قصيرة جداً في طرف إحدى المزارع وقد اتفقنا على أن نعمل «قَطَّة» فيما بيننا على أن يحضر كل واحد منّا قليلاً من الطحين لأجل أن نعمل قرص «برّ» محاكاة للرجال الكبار فندفنه في «مَلّة» من الرمل حتى ينضج بعد إبعاد الجمر عنه، وعندما صَبّ الماء على نصيبه من الطحين.. فاجأته بأن الذي في طرف ثوبي حجرة في حجم ثمرة البرتقال.. فاعتبرتُ ذلك من التحايل عليه , ثم وُفّقنا بواحد من الأولاد أكبر منا سناً , فقام بتهيئته لنا فأكلنا سوياً.. وهذا ضرب من الطرائف والفكاهة معه ـ رحمه الله وغفر له:
ستبقى له في مضمر القلب والحشا
سريرة ودٍّ يوم تبلى السرائر
ولئن غاب عنا أبو حمد فإن ذكره الطيب باق في شعاب النفس مدى عمري، تغمد الله الفقيد بواسع رحمته، وألهم أبناءه، وبناته، وعقيلته أم حمد، وأسرتي الشدي، وآل موسى الماجد أبناء شقيقتيه طرفة ونورة، ومنيرة السلطان، وأسرة آل صقيه والسلطان، ومحبيه الصبر والسلوان.
** **
- عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف