أُتيحت لي الفرص الكثيرة -بفضل من الله- من التعرف على ثلة من أهل العلم والفضل من خارج هذه البلاد المباركة، وذلك إما بقدومهم للعمل في هذه البلاد أو بلقياهم في حج أو عمرة وممن اغتبطت بمعرفته حتى أصبحت زميلاً له في العمل, وكان مكتبي بجوار مكتبه الشيخ الفاضل الدكتور عبدالعليم محمد محمدين رحمه الله رحمة واسعة وغفر له وتجاوز عنه، ولد الشيخ ولد في نجع صغير التابع لقرية السمطا -مركز البلينا- في محافظة سوهاج، عام 1350هـ، 13-11-1931م، كان والده لا يقرأ ولا يكتب وكذلك والدته، وكان والده مشغولاً بالزراعة يقضي أكثر وقته فيها، فكان الشيخ عبدالعليم يحب الزراعة ويساعد والده دائماً في أمورها ولوازمها, وليس عند الأبوين من الأولاد إلا عبدالعليم وأخته, فقامت والدته فدفعت إلى التعليم.
فالتحق بكُتَّاب القرية مثل أقرانه، وحفظ القرآن كاملاً في سن الحادية عشرة, تم اختباره فيه بالمعهد الأزهري بمحافظة قنا، ونجح في الاختبار, والتحق بهذا المعهد, وأكمل تعليمه فيه حتى الثانوية وقد حفظ ألفية ابن مالك فيها.
عُيِّن مدرس ابتدائي، وكان شغوفاً بالقراءة محباً لها، يقضي معظم وقته بين الكتب قراءة ودراسة, فنصحته زوجته أن يوجه مجهوده إلى الدراسة، إذ اكتفى -آنذاك- بالمرحلة الثانوية, فواصل دراسته بالأزهر، والتحق بكلية الشريعة والقانون وتفوق بها، وكان يتردد على القاهرة بين حين وآخر للدراسة والامتحانات، وفي الوقت نفسه كان مواصلاً اشتغاله بالتدريس حتى أصبح مدرس أول للغة العربية بالمرحلة الثانوية, بعد حصوله على ليسانس الشريعة والقانون اضطر أن ينتقل للعيش بالقاهرة للحصول على الماجستير والدكتوراه من الأزهر, وقد حصل على درجة الماجستير بامتياز وحصل على الدكتوراه بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى مع التوصية بالطبع والتبادل مع الجامعات الأخرى، وكان موضوعها (نطاق التشريع الجنائي في الشريعة الإسلامية) وذلك عام 1396هـ.
طُلب منه كما أخبرني أن يكمل شرح المهذب الذي شرح أوله النووي ثم أكمل جزءاً منه السبكي فاعتذر الشيخ عن ذلك, فأحيل الأمر إلى محمد المطيعي ليكمله.
طُلِبَ للتدريس في المملكة العربية السعودية, فوفد إليها, وكان التعاقد معه ليكون في فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم من عام 1401هـ إلى 1405هـ, وكُلف برئاسة قسم الحديث لمدة سنتين, فكان يرأس جلسة القسم كما أخبرني، وكان من ضمن الأعضاء في الجلسة الشيخ العلامة محمد بن عثيمين -رحمه الله-.
رجع إلى مصر بعد ذلك, وكان يلقي الدروس في الفقه الحنفي والحنبلي.
قدم مرة أخرى في شهر صفر عام 1411هـ إلى المعهد العالي للقضاء وكُلِّف بوكالة القسم إلى عام 1418هـ.
قال رحمه الله: قد اقترحتُ على قسم الفقه المقارن أن يضاف إلى مقرراته: مقرر العقد, ومقرر الحق, وقضايا معاصرة, ودراسة تحليلية للمذاهب فتمت الموافقة عليها عام 1419هـ.
أخبرني -رحمه الله- أنه قدم استقالته عام 1416هـ؛ ليرجع إلى مصر إذ النظام هناك ألزمه بذلك فسنوات الإعارة محدودة, فرفض عميد المعهد المكلف بالعمادة ذلك الوقت قبولها؛ إذ يرى أن بقاء الشيخ مصلحة للمعهد, فقام الشيخ عبدالعليم -رحمه الله- فقدَّم استقالته إلى جامعته في مصر؛ ليبقى في المعهد العالي للقضاء.
مكث الشيخ -رحمه الله- إلى عام 1421هـ ثم رجع إلى مصر, ثم رجع إلى المعهد عام 1428هـ واستمر إلى نهاية عام 1434هـ ثم رجع إلى مصر.
للشيخ -رحمه الله- مؤلفات وبحوث في القصاص، والرجعة, والمرابحة, والجعالة, والحوالة, وله كتاب كبير عن «العلاقات الدولية في الإسلام», قال لي رحمه الله: انتشر الكتاب بشكل لم أتصوره, وكتبتْ عنه الصحافة المصرية في وقته كتابات متعددة.
كان -رحمه الله- متعففاً ورعاً صين اللسان مخموم القلب لم أره يحب الثناء ورأيته لا يلقي له بالاً، دقيقاً في مواعيده جربتُ ذلك معه أكثر من مرة.
كان مقيماً في سكن أعضاء هيئة التدريس وكان بيننا موعد لمناقشة بحث أحد الطلبة فواعدته الساعة السادسة والنصف صباحاً فلما كانت الساعة السادسة وتسعاً وعشرين دقيقة فإذا به يخرج من سكنه! على كبر سنه إذ حينها قد جاوز الثمانين سنة.
كان على كبر سنه في مناقشات الرسائل العلمية والبحوث التكميلية يذكر موضع الخطأ ومكان التنبيه بالصفحة من حفظه, فكنتُ أتعجب من ذلك, فمرة في مناقشة طالب كنتُ المشرف على بحثه قال الشيخ رحمه الله: ذكرتَ -والخطاب موجَّه إلى الطالب- في صفحة كذا ثم يذكر الملحوظة ثم يقول: وهذا محل نظر إذ الصواب كذا, وكان البحث بين يدي ففتحت الصفحة التي ذكرها الشيخ فنظرتُ على وجه العجلة فلم أرَ ما نبه عليه الشيخ, وكذلك الطالب لم يجد ما لفت الشيخ النظر إليه فقال الطالب: لم أجد ما ذكرتموه شيخنا, فالتفت الشيخ إلي وقال: سبحان الله يا شيخ محمد! لربما وهمتُ! فقلتُ: لعل الطالب يأخذ النسخة من مكتبكم بعد المناقشة ليصحح الخطأ, فقال الشيخ: طيب. انتهت المناقشة, فقام الطالب وجاء بنسخة بحثه التي عند الشيخ عبدالعليم، ففتح الطالب الصفحة نفسها فإذا فيها الخطأ قد وضع الشيخ إشارة عليه فسبحان الله الذي أعطاه رحمه الله.
بل كان في جلسة القسم -رحمه الله- إذا جاء عرض الموضوعات وقراءة الخطط يذكر الملحوظات عليها من حفظه!
كم من مرة رأيته في مكتبه يراجع الشرح الكبير لابن قدامة ويتحفظ ألفاظه ليلقي على الطلاب من حفظه الدرس!
قال لي أحد الطلاب إن الشيخ عبدالعليم دخل عليهم الدرس فقال لهم: عذراً فقد قلت لكم أمس إن ذلك القول الفقهي قال به طاووس، والصحيح أن القائل به عطاء فصححوا ما أخطأتُ فيه!
حدثني أحد المشايخ الكرام من جيران الشيخ في السكن أن الشيخ أتى لزيارته وعيادته لمرض ألم به، فلما أذن المغرب طلب الشيخ منه أن يكلف ابنه بأن يذهب به إلى المسجد إذ عينا الشيخ لا تسعفه إلى اهتداء الطريق! فقال له صاحبنا: أبشر لكن كيف يا شيخنا تذهبون إلى المسجد من مبنى سكنكم في هذا الوقت وكيف ترجعون إليه؟ فقال: أذهب إليه من حفظي وأعود كذلك! فأمشي على الحفظ للطريق لا على الرؤية البصرية! أما من هذا المبنى فإني لا أعرف الطريق وأخشى الضيعة.
أخيراً.. طلبتُ من الشيخ -رحمه الله- أن يكتب لي سيرته العلمية والعملية فاعتذر بأدب جمّ وقال: جزاكم الله خيراً على حسن ظنكم ولا حاجة لذلك, فإني أظن الناس لا يحتاجون إليها وربما لا ينتفعون بها, ولكن أبشر سأجيبكم عن أي سؤال لما لكم علي من حق!
كان ينظم الشعر في مقتبل عمره، وقد حفظ بحوره, كان يجيد رسم المناظر الطبيعية مثل شاطئ النيل والنخيل وشروق الشمس.
رحم الله الشيخ الكريم عبدالعليم فقد أدركته لا يخوض فيما لا يعنيه, خلوقاً, متواضعاً مع الجميع مهما كانت منزلتهم, زاهداً, مقبلاً على ما يخصه, محافظاً على عمله, لا يتأخر عنه, رحيماً بالطلاب, لطيف المعشر, لين الجانب, أحسبه كذلك والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً.
قبل وفاته بشهر أصيب بنزلة برد خفيفة، وأثناء جلوسه على كرسي أغمى عليه ووقع على الأرض، وتم نقله إلى غرفته، ثم أفاق، وأصبح قليل الحركة ملازماً للفراش، وتم عرضه على الدكاترة المتخصصين، إلا أن العلاج لم يجدِ نفعاً، قال ابنه المهندس أمجد -وفقه الله- الذي اتصلتُ به لأعزيه في وفاة الشيخ «كان والدي لآخر لحظة يتحدث إلينا، ويذكر كل شيء، ولم ينتَبْه النسيانَ أبداً، وكان محباً للعلم وطلابه في أي مكان، وكان دائماً يسأل عن طلاب العلم في قريتنا وما وصلوا إليه، ويدعو لهم بالتوفيق، وكان يفرح فرحاً شديداً بالمتفوق منهم، ويشحذ همة من يلتقي بهم.
وفي مساء الأربعاء الموافق 21-1-1439هـ، 11-10-2017م الساعة الحادية عشرة تقريباً، فاضت روحه إلى بارئها، فغُسِّل وكُفِّن ونقل الجثمان إلى قريته -التي كان دائماً يتوق إليها- حيث تم الصلاة عليه بعد صلاة العشاء، وحمل إلى مدافن الأسرة, فدفن هناك).
رحم الله الشيخ عبدالعليم ورفع درجته, وأحسن عزاء أهله والمحبين له في فقده وعوضهم خيراً, والحمد لله على كل حال.
** **
- عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء