فقدت مدينة بريدة قبل أسبوعين رائداً من رواد التعليم فيها وهو الأستاذ المربي: سليمان بن فهد الفايزي، أبو أحمد الذي وافته المنية ليلة الجمعة وصلي عليه بعد صلاة الجمعة في السادس عشر من شهر الله المحرم في عام تسع وثلاثين وأربعمائة بعد الألف من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد صلى عليه في جامع الشيخ محمد بن عبد الوهاب وشهد جنازته في مقبرة الموطأ في بريدة جمّ غفير من الناس قد أبانوا عن محبتهم له، فكلهم يدعون له ويترحمون على ذلك الجدث الذي حوى سموا وعلما وأدبا، ولم تفتر ألسنتهم تلهج بالدعاء والثناء عليه بالخير وجميل الخصال.
عُلوٌّ في الحياة وفي المماتِ
لَحَقٌّ أنت إحدى» المكرمات»
عَليكَ تَحيَّةُ الرحمن تَتْرَى
بِرَحْمَاتٍ غَوادٍ رائِحاتِ
لم يكن أبو أحمد غريبا عني لكي أتطلّع إلى معرفة مشاعر الناس وما يقولونه عنه حال فقده، فأنا أشرف بكونه خالي من جهة النسب، وأعرف عنه أضعاف ما يذكره الناس من خصال وشمائل حميدة، ولكني أحببت أن أستطلع مشاعر الناس الذين لا تربطهم به قرابة؛ ليكون الوصف مجردا عن تهمة المحاباة، فلا والله ما لقيت أحدا وقت الصلاة عليه أو وقت الدفن، أو عند العزاء، إلا والألم بادٍ على محياه، يأسفون على فقد من حوى الشهامة، والكرم، والنبل،وصدق المعاملة،وحسن الحديث، ولطف المعشر، وهم مع ذلك يسلّمون بقضاء الله، ويرون أنّ ذلك من عقيدتهم اقتداء بقول نبيهم صلى الله عليه وسلم :» إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» أخرجه البخاري.
والعمر يقاس بالإنجازات، فهو وإن قصر طويل إذا كان محتويا على الأعمال الجليلة التي يحبها الله ويحمدها الناس.
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته
ما قاته وفضول العيش أشغال
فقدت مدينة بريدة في ذلك اليوم أحد رواد التربية والتعليم، قضى حياته العملية في خدمة التعليم معلما ثم إداريا، فقد التحق بالتعليم بعد تخرجه في جامعة الملك سعود في أواخر السبعينيات فكان من الرعيل الأول في التعليم في مدينة بريدة، وعمل أمين مكتبة في ثانوية بريدة، وانتقل بعد ذلك إلى العمل إداريا في إدارة التعليم بالقصيم، ولثقة إدارة التعليم فيه أوكلت إليه مهمة صرف العهد المالية التي كانت تصرف آنذاك نقدا إلى المدارس وهذا العمل يتطلب حذقا وأمانة، وكان أبو أحمد -رحمه الله- يقوم بهذا العمل بكل كفاءة وإتقان، ويقول: لن يسامحني الله في ريال واحد فرطت في حفظه وإيصاله».
وانتقل بعد ذلك ليعمل مفتشا إداريا في إدارة التعليم بالقصيم، ثم مساعدا للمدير العام للشؤون الإدارية والمالية، ابتداء من عام 1417 حتى نهاية عام 1421هـ . فعاصر بذلك ثلاثة مديرين، تعاقبوا على إدارة التعليم في القصيم سابقا، وهم: د. عبد الحليم بن إبراهيم العبد اللطيف، ود. عبد العزيز بن إبراهيم الراشد، والأستاذ : صالح بن عبد الله التويجري.
وكانت فترة عمله نائبا لإدارة التعليم أبرز مراحله الوظيفية عطاء وإبداعا، ابتداء من عمله مع الدكتور عبد الحليم العبد اللطيف -حفظه الله- فقد كان من توفيق الله أن هاتين الشخصيتين - أعني: أبا أحمد ود. عبد الحليم- متناغمتان، فالدكتور عبد الحليم- وفقه الله- هو ممن أوتي حسا تربويا تميز به في عمله الإداري، ومكنته مواهبه بعد توفيق الله من إدارة عمله مكللا بالنجاح، وكان عضيده ومستشاره الأول في هذا النجاح أبا أحمد -رحمه الله -عبر الرأي الحصيف، والفكر البناء، والعمل الجاد،والصبر الدؤوب.
فقد استفرغ وسعه في خدمة التعليم وجدّ واجتهد في وقت كانت الحاجة فيه ماسة إلى تطوير التعليم في مدارسه ومناهجه، وكان يقوم بعمله قيام المحب الناصح، لا قيام المتثاقل الذي يريد التخفف من عبء العمل.
وامتد ذلك وتواصل أيضا في إدارة الدكتور: عبد العزيز الراشد - حفظه الله.
يقول الدكتور عبد العزيز الراشد واصفا الفقيد: «كان رحمه الله سمح المحيا،كريم السجايا، ابتسامته التي تعلو محياه بريده لمحدثيه ومستمعيه، كان متحدثا هادئا لطيف العبارة، ولا شيء يخترق القلوب كلطف العبارة، وبذل الابتسامة، ولين الكلام، عرفته سليم القصد، نقي القلب يغض الطرف عن الزلات،ولا يتتبع الهنات والهفوات، كان متواضعا سمحا مع زملائه ومراجعيه، محبا لدينه ووطنه وللمواطنين، كان لي نعم المساعد والمعين، ونعم المستشار الأمين يعطي رأيه بصدق، ولا يتردد في قول الحق، يتحمل المسؤولية بأمانة، ويقوم بعمله بكل جد وجلد،ولا يتوانى فيما يسند إليه من مهمات تضاف إليه،فهو قوي أمين {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}أ.هـ.
واستمر في عمله كذلك في إدارة الأستاذ : صالح التويجري - حفظه الله - سنة واحدة ثم تقاعد بعد إكماله الخدمة الوظيفية في نهاية عام 1421هـ.
وكثيرا ما كنت - وأنا في سن صغيرة - أصادف في منزله عددا من رجالات التعليم، وجلّ حديثهم عن التعليم ووسائل النهوض به، وقد استفدت من هذه المجالس ثقافة مبكرة في شؤون التعليم، علقت في ذهني من تلك الحوارات والمناقشات النافعة، فلم يكن أبو أحمد -رحمه الله - ممن ينسى رسالته بمجرد انتهاء عمله اليومي، بل كان مهموما بشؤونه حتى في منزله وفي أوقات راحته، ولا غرو فقد كانت هي راحته وأنسه الحقيقي.
وكان من ثمرة تعليمه أن تخرج به طلاب كثر خدموا وطنهم ومجتمعهم، وعدد منهم اليوم يشغل أماكن مؤثرة في المجتمع، فمنهم الوزير والقاضي والمعلم والمهندس وغيرهم، ومن هؤلاء معالي الشيخ الدكتور: صالح بن عبد الله بن حميد، عضو هيئة كبار العلماء وإمام وخطيب المسجد الحرام، ومعالي الدكتور : علي بن ناصر الغفيص وزير العمل والتنمية الاجتماعية، ومعالي الشيخ : عبد العزيز بن صالح الحميد رئيس محكمة الاستئناف بالرياض، والشيخ الأستاذ الدكتور: أحمد بن عبد الله بن حميد، والأستاذ الدكتور: سليمان بن حمد العودة، والشيخ: عبد الله بن صالح الفوزان، وغيرهم كثير.
وكان يحث المتعلمين من الشباب وغيرهم على الأخذ من العلماء الكبار المعروفين بالعلم والديانة، وطاعة ولاة الأمر، ويذكرهم بحق الوطن عليهم.
ونظرا لكفاءته في التعليم فقد كان الشيخ العلامة عبد الله بن حميد -رحمه الله- الذي كان قاضيا في بريدة آنذاك يطلب منه تدريس بعض أبنائه، فقد أخبرني أنه درّس أحد أبناء الشيخ- رحمه الله- خارج وقت الدراسة فأرسل له الشيخ عبد الله مبلغا من المال، ورفض أبو أحمد أخذ المال، ثم بعث له الشيخ بهدية، وهي كتاب :» سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي لعبد الملك بن حسن العاصمي المكي، وهو من كتب التاريخ، فقبل الهدية وما زال الكتاب ضمن مقتنيات مكتبته رحمه الله.
والشيخ العلامة عبد الله بن حميد - رحمه الله - كان معروفا بالفطنة،ومعرفة أقدار الرجال، وهو لا يرتضي لهذه المهمة إلا من يثق بعلمه وكفاءته.
استمر أبو أحمد في عمله في إدارة التعليم إلى أن تقاعد، ونشط بعد ذلك في المجال الثقافي والاجتماعي، فقد أسهم في الكتابة الصحفية فكتب مقالات عديدة في صحف محلية، وبخاصة صحيفة الجزيرة، وكان يتناول فيها موضوعات كثيرة متنوعة تتعلق بأحوال المجتمع، واقتراح المبادرات والأفكار التي تخدم الوطن والمجتمع، وعرض بعض الإشكاليات وعلاجها، ونقد أداء بعض المؤسسات الحكومية الخدمية، واقتراح الحلول والبرامج المناسبة،ومن أمثلة ذلك أنه كان من أوائل من نادى بفتح جامعة تحمل اسم جامعة القصيم، وذلك عبر مقال له نشر في وقته.
واستمر في هذا العطاء مدة طويلة، حصل من خلالها على شكر كثير من المسؤولين وثنائهم، وأسهم عبر كتاباته في علاج كثير من الخلل من خلال مقترحاته وآرائه البناءة التي كانت تصب في خدمة الوطن والمواطن.
وكانت له إسهامات مع كبار رجالات المنطقة في بعض الموضوعات التي تهم البلد.
وكان يبذل جاهه في نفع الناس الذين يقصدونه بطلب الشفاعة وهم كثر، فلم يكن يردّ طالبا، ولم يبخل بجاهه يوما، بل كان كريما معطاءً، وكثيرا ما أثمرت شفاعته، وكان بهذا يتمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما أحب» متفق عليه.
ولعله يصدق عليه - فيما نحسبه والله حسيبه - ما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الناس أنفعهم للناس» أخرجه الطبراني وغيره، وحسنه الألباني.
وهو مع هذا كله متصف بالورع والبعد عن المتشابه، فلم يكن ممن يهرعون للمكاسب الدنيوية دون نظر وتحر في نزاهة مصادرها ؛ولهذا استطاع أن يؤدي عمله دون خلل أو تقصير، بل حاز على إعجاب مرؤوسيه، وأحسب أن الله أعقبه بذلك راحة الضمير، وبارك الله له في وقته وماله وعمله وولده.
أما إذا أتينا إلى حياته الاجتماعية فقد كان نسيجاً وحده في علاقاته الأسرية، إذ يخبرني ابنه الأستاذ أحمد مدير إدارة الإشراف التربوي أنه كان يعامل أبناءه عندما كبروا معاملة الأخ والصديق، وكان يتمثل المثل الشعبي: «إذا كبر ابنك خاوه «، ولهذا لم يحس أبناؤه بأي حاجز يفصله عنهم، يظهر هذا في تعامله مع الكبير وحدبه على الصغير.
عندما تراه بين أبنائه وأقاربه لا تكاد تخطئ بشره وانشراحه على محياه، وترى بسماته التي تنطوي على روح مفعمة بالتفاؤل وحب الخير لكل أحد، لم يكن يدع مكدرات النفس تطغى على تعامله مع من يودّه، وقد تعرض له منغصات بشرية ولكنك وأنت تحادثه لا تشعر بذلك، بل يظهر لك البشر والابتهاج، وإن كانت نفسه تنطوي على ألم، وحسبك بهذا شرفا وفخرا.
لا يكاد يترك سفرا أو رحلة برية إلا اصطحب فيها أحدا من أبنائه، وأوكل إليه مسؤولية التجهيز والإعداد، ولهذا زرع في أبنائه روح المسؤولية عن قناعة ومحبة منذ الصغر، فأصلح الله له ذريته وبارك فيها.
وقد رافقته في بعض مناسباته ورحلاته التي يكون فيها معه عادة أعز أحبابه وأصدقائه، وكثير منهم من أهل العلم والمعرفة والأدب، ومنهم : شقيقه رجل الأعمال: أبو فهد عبد الله الفايزي، وخاله الأستاذ : حمد الرميح، والأديب الدكتور: حسن الهويمل، والشيخ الفاضل: صالح المقيطيب، وغيرهم من وجهاء المجتمع، وتكون لأحاديثهم متعة وفائدة يفتقد أمثالها كثير من شباب الجيل الحاضر.
وكان يتعاهد أقاربه بالصلة والزيارة، ولو ترتب عليها سفر، يسأل عن أحوالهم، ويعود مريضهم، ويدخل السرور عليهم،لا يتكلف ذلك بل يفعله انطلاقا من سجيته التي جبل عليها.
حتى إنه يهتم بالسؤال عن أبناء قريباته الذين كانوا يقيمون في بريدة للدراسة وهم من خارجها، فكان يتصل بهم، ويلح عليهم برؤيتهم آخر كل أسبوع، ويكرمهم إذا قدموا، ويدعوهم في كل مناسبة يقيمها، ويحتفي بهم.
وهذا يجرّنا إلى الحديث عن كرمه الحاتمي، فلا أذكر أني قدمت إليه في زيارة وحدي أو مع غيري إلا وألح علينا بالغداء أو العشاء أو كليهما في منزله أو مزرعته الواقعة في المليدا، ولا يسلمنا إلا وقد التزمنا له بما أراد، ونضطر لذلك لعلمنا أن هذا يفرحه ويدخل البهجة إلى قلبه، وكان هذا ديدنه مع كل من يعرفه، فلا أكاد أحصي موائد كرمه، فقد كان محل ضيافة لا ينقطع، وموئل كرم لاينصرم، عرفه بذلك القريب والبعيد.
وخصلة الكرم في أبي أحمد- رحمه الله- عرفت عنه منذ شبابه ونشأته في بلدة «القرعاء» التي ولد فيها، وتحمله للمسؤولية بعد وفاة والده فهد بن علي الفايزي- رحمه الله - وهو من رجالات عقيل المعروفين، وقد كان كريما، باذلا للمعروف، فورث ابنه عنه هذه الخصلة الحميدة، فكان عميدا لدى أسرته، يرجع إليه كما كان والده من قبل، وكان بيته مزارا لأقاربه، يقدمون عليه، فيسعد بقدومهم، ويحتفي بهم، ويعدهم من جملة أهله وأولاده، بل إنه يؤثرهم على أولاده، وقد عايشت هذا بنفسي في كثير من زياراتي مع والدتي له، وكان أهله وأولاده عونا له على الخير، يتنافسون على بره ورضاه.
يسقط الطير حيث يلتقط الحب
وتغشى منازل الكرماء
وقد رثى أبا أحمد عددٌ من محبيه بقصائد فصيحة وعامية، ومنها رثاء الأستاذ: دخيل بن محمد الدخيل فقد رثاه بقصيدة طويلة ومنها هذه الأبيات:
صدع الفؤاد رسالة من ناع
فيها ابن فهد راح دون وداعي
فيها سليمان قضت أيامه
لما قرأت تكسرت أضلاعي
والرأس مني قد علاه صداعه
كيف العلاج لأضلعي وصداعي
يا أيها الوتسب إنك مفجع
مالي أراك تزيد في أوجاعي
يا صدمة حلت علينا فجأة
كيف الجبال تذوب دون دواعي
قصر تهدّم لحظة في غفلة
ما كنت أحسب أن تهدّ قلاعي
يا كوكبا بالعلم راح بريقه
من للعلوم صحافة سيراعي
عشرون مع عشرين عاما مزهرا
في خدمة التعليم والإبداع
يا سيدا بالحلم كان لحلمه
هو مرجعا للرأي عند نزاع
لقد كان فراق أبي أحمد عزيزا على النفس، ولكنه قدر الله الغالب، وقضاؤه المحتم على كل نفس بشرية استكملت أجلها.
أشاب الصغير وأفنى الكبير
كرّ الغداة ومرّ العشي
والعزاء ما نراه من محبة الناس وثنائهم، وهم شهداء الله في أرضه، وأما مشاعري الخاصة فقد لا أستطيع التعبير عنها فيما أكتبه ؛ولهذا أستعير لها أبيات بهاء الدين زهير فالشعر يفصح ما لا يفصح النثر:
فيا قبر الحبيب وددت أنـّي
حملت ولو على عيني ثراكا
سقاك الغيث هتـّانا وإلاّ
فحسبك من دموعي ما سقاكا
ولا زال السلام عليك منـّي
يرفّ مع النسيم على ذراكا
رحم الله أبا أحمد، وجمعنا وإياه وأحبابنا في مستقر رحمته، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
** **
د.أحمد بن محمد الخضيري - عضو هيئة التدريس في كلية الشريعة بالرياض
Ahmadkd@gmail.com