1 - يضرب لنا أبو الأنبياء إبراهيم - عليه السلام - أروع الأمثلة في الذوق والأدب مع ربه، حينما تحدث عن نعم الله وآياته وقدرته فنسبها له سبحانه وتعالى: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ 78 وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ 79. ثم جاء في سياق حديثه ذكر المرض فنسبه لنفسه تأدبًا مع الله فقال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ 80 والذي أَطْمَعُ أنْ يغْفِرَ لي خَطِيئَتي يَومَ الدِّينِ 81} وهنا أطلق على رجاء المغفرة لفظ الطمع، وهو من باب الأدب لما فيه من تواضع لله ومباعدة لنفسه عن هاجس استحقاق المغفرة.
2 - ومن المواقف الجميلة - والتي يتجلى فيها الخلق الحسن والأدب الرفيع - موقف الخضر عليه السلام مع الله تعالى؛ فهذا العبد الصالح يقول في حق السفينة: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ، ولما ذكر الخير نسبه إلى الرب تبارك وتعالى: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا . فما كان من الخير أسنده الخضر إلى الله، وما كان في ظاهره النقص أو العيب أسنده إلى نفسه تأدبًا مع ربه.
3 - ويقول يوسف عليه السلام: قالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرزَقانَهُ إلاَّ نَبَأْتُكُمَا بِتَأوِيلِهِ قبلَ أنْ يَأتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي فانظر إلى أدب يوسف عليه السلام برده العلم الذي يحمله إلى سبحانه وتعالى.
4 - ومن المواقف العذبة التي يحسر دون وصفها منطق، موقف عيسى عليه السلام عندما سأله الله وهو عالم السر: وإذ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، فكان الرد الجميل بقوله: قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ، ولم يجب بـ: (لم أقله)، وفرق بين الجوابين في حقيقة الخُلُق وكُنه الأدب بين قول: (لم أقل) وبين قول: إنْ كُنتُ قُلتُهُ فَقَد عَلِمْتَهُ ?! أن تنفي شيئًا أمام عليم فهذا فيه تجاهل لعلمه.
إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ 116 مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ 117 .
5 - ومن كمال أدب عيسى عليه السلام قوله: إنْ تُعَذِّبْهُمْ فإنَّهُمْ عبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهم فإنَّكَ أنتَ العَزِيزُ الحَكِيمْ لما كان المقام مقام توبيخ، وموافقة لله في غضبه، لا مقام استعطاف لم يقل: (الغفور الرحيم) بل قال: العَزِيزُ الحَكيمُ أي: هم عبادك، وأنت أعلم بجرمهم، فلولا أنهم عبيد سوء لم تعذبهم. وإن غفرت لهم، فمغفرتك صادرة عن كمال عزة، وحكمة، لا عن عجز، أو سوء تصرف.
6 - ومن مشاهد الذّوق، قول موسى عليه السلام: فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ولم يقل: (أطعمني) تأدبًا مع العزيز سائلاً من فيضه ومنيخًا بفنائه.
7 - وها هو نبي الله أيوب عليه السلام، يدعو ربه وقد أقعده المرض لسنوات: وأيوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ أنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وأنتَ أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فلم يستبد به الجزع، ولم تستولِ عليه الحيرة ولم تحرقه أنفاس الكرب، بل ظل ساكن النفس، وعبَّر عن تلك المواجع الشديدة والآلام الرهيبة بكلمة {مَسَّنِيَ} والمس: هو الإصابة الخفيفة مسطِّرًا ملحمةً في الأدب، فاض الأدب من هذا النبي الكريم حتى لم يصرح بالسؤال، بل اكتفى بتعظيم رحمة الله، ولم يقترح شيئًا على ربه تأدبًا وتوقيرًا؛ فعلم الله صدقه وصبره فرفع ذكره وشفاه وأعطاه... فتأمل الأدب كيف يبلغ منتهاه عند صفوة خلق الله!!