«الجزيرة» - أحمد المغلوث:
في السنوات الأولى لعملي بالصحة وكنت أيامها فني صيدلة وأعمل في مستوصف مدينة المبرز قبل إكمال دراستي الجامعية وكان مديري د. يوسف زهران. وكان قبل ذلك أحد أساتذتي في المعهد الصحي بالهفوف. ومن عاداته -رحمه الله- أن يدعوني للاستماع للقرآن الكريم بصوت الشيخ «محمد رفعت» الذي يحبه كان ذلك داخل سيارته الأمريكيه البيضاء ومن خلال اسطوانات بلاستيكية. كان عاشقاً لصوته وترتيله حد الوله.. وكنت أشاهده وهو يمسح دموعه بمنديله الأبيض متأثرًا.
والحق إنه -رحمه الله- حببني إلى صوت الشيخ رفعت. وتعود على ذلك كل يوم في شهر رمضان وفي وقت مبكر من الدوام قبل حضور المراجعين الذين في العادة يكونون قلة في الفترة الصباحية.. هذا ويعتبر الشيخ رفعت وحسب أوصاف معاصريه أنه يتسم بصوت يضاعف من خشوعك ويتغلغل في داخل قلبك ووجدانك.
كان صوته يجمع بين الخشوع وقوة التأثير. والفرادة والتميز على الرغم أن العصر الذي عاش فيه لم تكن تتوفر فيه التقنيات الحديثة في تسجيل الأصوات كما هي الحال اليوم إلا أنه استطاع ورغم بساطة أجهزة التسجيل أيامها أن يفرض نفسه على مستمعيه.
وفي دراسة أعدتها الكاتبه «أمينة يوسف» عنه جاء قولها: ولم يكتفِ الشيخ محمد رفعت بموهبته الصوتية الفذة، ومشاعره المرهفة في قراءة القرآن، بل عمق هذا بدراسة علم القراءات وبعض التفاسير، واهتم بشراء الكتب، ودراسة الموسيقى الرقيقة والمقامات الموسيقية، فدرس موسيقى «بتهوفن»، و»موتزارت»، و»فاجنر»، وكان يحتفظ بالعديد من الأوبريتات والسيمفونيات العالمية في مكتبته. وتضيف:
عندما افتتحت الإذاعة المصرية كان الشيخ محمد رفعت أول من افتتحها بصوته العذب، وقرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}، وقد استفتى قبلها الأزهر وهيئة كبار العلماء عما إذا كانت إذاعة القرآن حلالاً أم حرامًا؟ فجاءت فتواهم بأنها حلال... وهكذا بدأ التعاون مع الاذاعة) أ.هـ. تذكرت ذلك وأنا في طريقي إلى الشرقية وبالصدفة استمعت في إذاعة عربية وبمناسبة الشهر الكريم حديثاً عن أشهر القراء للقرآن الكريم. وجاء ذكره كونه أشهرهم بل يعتبر شيخهم جميعًا. ويُذكر أن أحد الأثرياء قد دعاه للقراءة يوما في مناسبة ما، فلما انتهى الشيخ من تلاوته أعطاه الثري أجر وقته الذي قضاه في التلاوة. وكان الشيخ كما هو معروف «كفيفا» فلم يعرف ما أخذ.
فلما رجع الثري لبيته وجد أنه أخطأ وأعطى الشيخ (مليما) بدلا من (جنيها ذهبيا)!.. فتحرج كثيرا وأسرع لبيت الشيخ يعتذر له ويستسمحه أن يأخذ الجنيه الذهبي. فأبى الشيخ رفعت قائلا للرجل الثري: هذا رزقي!.. وكان الشيخ رفعت القاسم المشترك في إحياء الاحتفالات الدينية في ليالي رمضان في مصر وأذان مغرب رمضان بصوت الشيخ محمد رفعت الذي رغم مرور عقود من السنين على وفاته إلا أنه ما زال يحتل موقعا استثنائيا بين قراء القرآن الكريم بل وله تأثيره على من يستمع إليه وكان تأثير تلاوته عابرًا للثقافات والأديان وكان محمد عبدالوهاب يبكي حين يسمعه.. وبعد أن أصبح الشيخ رفعت المقرئ المفضل للمسلمين في العالم أجمع جاء مهراجا هندي ليعرض عليه إحياء ليالي شهر رمضان في الهند مقابل 100 جنيه ورغم ضخامة المبلغ في ذلك الوقت وفقر الشيخ إلا أنه رفض لأنه لا يستطيع أن يترك مصر في رمضان وهنا بدأ يضطهده مستشار الحكومة الإنجليزية في الإذاعة وكان صديقًا للمهراجا مما اضطره إلى ترك الإذاعة فاشتعلت ثورة الناس والمفارقة أن هذا الغضب كان أشد ضراوة عند الأقباط الذين طالبوا بعودته فأصدر الملك فاروق قرارًا بعودته إلى الإذاعة ثلاث مرات أسبوعيًا بدلاً من مرتين، وأيضا يؤذن لصلاة المغرب يوميًا في رمضان وهي العادة التي ما زالت مستمرة حتى الآن كما كان صوته الساحر سببًا في أن يعتنق الكثيرون الإسلام مثل قائد القوات الجوية الكندية الذي عندما استمع إلى صوته في كندا تأثر به جدًا وجاء إلى مصر ليبحث عن صاحب هذا الصوت الجميل وذهب إلى مسجد فاضل باشا الذي كان يقرأ فيه وأعلن إسلامه على يديه ولم يغادر مصر بعدها... رحم الله الشيخفعت شيخ المقرئين. رحمه الله رحمة واسعة.