«الثقافية» - حمد الدريهم:
وضعَ أفكاره الجريئة على رفوف المكتبة العربية؛ لتسهم في إعادة رسمِ التصورات الجذريّة اتجاه تاريخ الأديان في منطقة الشرق الأوسط، وليكون من المفكرين العرب القلّة الذين رأوا نتاج أبحاثهم وأطروحاتهم العميقة بعد فترة قصيرة من طرحها قياساً بتاريخ الأفكار وأثرها، في أهم منظمة ثقافية عالمية «اليونيسكو» التي أقرّت بأن: (الأقصى تراث إسلاميّ خالص)؛ وليعلّق استفهامات كثيرة في سماء العقل العربي حول أطروحاته الجريئة؛ «الجزيرة الثقافية» التقت بالمفكر والمؤرخ العراقي الدكتور فاضل الرّبيعي، ليضيء بإجاباته تلكم الاستفهامات، فإليكم الحوار:
* أقرّت اليونسكو في عام 2016م، بأن الأقصى تراث إسلامي خالص، صف لنا الشعور الذي انتابك؛ لاسيما أن العادة جرت بأن أصحاب الرؤى والأفكار العميقة لا يظهر أثرها إلا بعد سنوات طويلة من طرحها؟
بكل تأكيد شعرت بالسعادة الشخصية الغامرة لقرار اليونسكو، لا لأنه جاء ليؤكد نظريتي (القدس ليست أورشليم)، وإنما لأن هذا النوع من الرؤى، بات يشق طريقه في عالم النقاشات العميقة والموضوعية داخل الأوساط الأكاديمية والعلمية. قبل قرار اليونسكو، كانت فكرة من هذا النوع، تبدو يتيمة (معزولة) وغير قابلة للتصديق. الآن، بات بوسعنا أن نقول إن الفكرة تسلحت بقرار من أهم منظمة ثقافية دولية. وكما علمت فقد كان كتابي (القدس ليست أورشليم) بين وثائق عدّة، تاريخية وأرشيفية وقانونية عرضت على المعنيين لإصدار القرار. بالطبع، سيكون علينا أن ننتظر وقتاً طويلاً لرؤية انتصار هذه الأفكار. إنها بحاجة للوقت والجهد بأكثر مما نتخيّل.
* من يتأمّلُ الأثر المباشر والفاعل لكتابك: «القدس ليست أورشليم» يجد أن هذا الأثر ظهر داخل مؤسسة دولية ذات صبغة غربية بإطارها العام؛ لماذا يتأخر الأثر المباشر لأصحاب الرؤى والأفكار العميقة في عالمنا العربي؟
من المحزن القول حقاً، أن أكثر الأوساط التي عارضت أفكاري وقاومت نظريتي،كانت فلسطينية- عربية. كانوا يواجهون كتابي (القدس ليست أورشليم) بالصراخ في وجهي: بل القدس هي أورشليم؟ وكنت أطرح على هؤلاء السؤال البسيط التالي: إذا كانت القدس هي أورشليم فلماذا تقاتلون من أجلها؟ كيف يمكن للمرء أن يقاتل من أجل أرضه وهو يؤمن برواية الآخر أنها أرضه هو؟ إذا لم نتمكن من فضّ الاشتباك بين الروايتين العربية والإسرائيلية، فلن نتمكن من فعل أي شيء للقدس. في الواقع هناك روايتان زائفتان سائدتان اليوم بشأن القدس، الأولى إسرائيلية- غربية وتقول إن القدس هي أورشليم. وفي هذا الإطار أنا أتحدى أي عالم آثار أو مختص بالتاريخ، أن يقدم أي دليل من التوراة يؤكد هذا الزعم؟ إن التوراة في نصّها العبري لا تقول قط أن القدس هي أورشليم. أما الرواية الزائفة الثانية، فهي الرواية العربية- الإسلامية السائدة التي تقول أيضاً دون أي دليل، أن القدس كانت تدعى أورشليم. الروايتان زائفتان للأسباب التالية:
أولاً: إن النص العبري من التوراة يسجل اسم جبل يدعى (قدش- قدس) دون ألف ولام، والوصف الجغرافي في نصوص التوراة، يشير إلى المكان باعتباره ( جبلاً). بينما تسجل التوراة اسم (أورشليم) باعتبارها مدينة دينية ضمن وصف جغرافي مختلف. هذا يعني أن التوراة تتحدث عن مكانين مختلفين لا عن مكان واحد، أحدهما جبل والآخر مدينة، تماماً كما يتحدث المسلم عن جبل (أحد) وعن مكة كمكانين مختلفين. والحال أن جبل أحد، هو جبل وليس مدينة، وهو في جغرافية مختلفة عن جغرافية مكة المدينة الدينية؟
وسوف أكشف في مؤلفاتي الجديدة عن نقوش آشورية سجلها عدد كبير من ملوك آشور، خلال معاركهم في (جبل قدش) في تعز، كما سجلوا اسم أورشليم كمدينة دينية يهودية، وهذه النصوص تتحدث بوضوح عن أرض اليمن القديم (الجوف وصنعاء وإب وتعز) ولا وجود لأي شيء عن فلسطين.
ثانياً: هناك خطأ تاريخي في الادعاء القائل، أن القدس وردت في التوراة وهي أورشليم، لأن اسم القدس العربية- الإسلامية لم يظهر في السجلات والوثائق التاريخية العربية - الإسلامية إلا بعد 73 هجرية؟ قبل هذا التاريخ لا وجود لاسم القدس. والدليل القاطع على ذلك، أن الرواية الإسلامية التي تتحدث عن وثيقة عمر بن الخطاب (ما يسمى العهدة العمرية) تقول إن عمر بن الخطاب كتب في عهدته عام 15 هجرية (هذا ما عاهد عليه عمر أهل إيلياء) ولم يكتب (القدس)؟ ولو كان اسم القدس معروفاً زمن عمر لكتب العهدة هكذا (هذا ما عاهد عليه عمر أهل القدس)؟ في الواقع لم يظهر اسم القدس (بألف ولام وليس قدش- قدس) إلا بعد بناء قبة الصخرة في زمن مروان (أو ابنه الوليد) نحو 73 هجرية. فكيف يمكن لعاقل أن يصدق أن التوراة التي كتبت في 500 قبل الميلاد، تذكر اسم القدس الذي لم يظهر إلا بعد 700 ميلادي؟
ثالثاً: إن (قدس- قدش) الواردة في التوراة توصف كجبل، والقدس الإسلامية ليست جبلاً ولا فوق جبل، وهي مدينة بنيت فوق هضبتين صغيرتين، لقد شرحت في سائر مؤلفاتي وبشكل تفصيلي، كيف أن الرواية الاستشراقية هيمنت على عقول العرب والمسلمين. ومسألة القدس وأورشليم هي جزء صغير في لعبة خداع كبرى.
* من يتعمّق في أطروحات الدكتور فاضل الربيعي يجد أنها تهدف إلى فكرة جريئة، مفادها إعادة قراءة تاريخ الأديان من جذورها الأصليّة، كيف ستواجه التفكير التقليدي المسيطر في العقل العربي حالياً؟
قبل أن أقدم جواباً تفصيلياً حول هذا الجانب من المسألة، دعني أوضح ما يلي: ما من أمة يمكنها البقاء كأمة فاعلة وحيّة في المسرح التاريخي، إلا إذا واجهت (تاريخها المكتوب) بالنقد والمراجعة الجريئة وقامت بإعادة بنائه. الأمم التي تموت أو تختفي من المسرح التاريخي، هي الأمم التي تتآكل داخل (زنزانة) تاريخها المزيف. سأعطي المثال التالي عن معنى وجود سردية تاريخية توحد وجدان الأمة. يكشف لنا التاريخ الإنساني عن حقيقة مذهلة، أن الأمم تنهض وتستمر في التقدم إلى الأمام بفعل عاملين مركزيين (إلى جانب عوامل أخرى منها الاقتصاد) وهذان العاملان هما، أولاً: اللغة الموحدة، أي الأداة التي توحدّ وجدان سائر المواطنين وتمكنهم من التواصل الفعال (وليس لغات عدة يصعب تعلمها أو فهمهما). وثانياً: وجود سردية تاريخية توحد وجدان المواطنين، وتعيد نسج ارتباطاتهم بوصفهم جماعة لديها (تاريخ واحد) وليس (تاريخات متناقضة).
سأضرب لك المثال التالي: عندما هاجر المستوطنون الأوربيون الأوائل من ضفة الأطلسي الأوربية نحو أمريكا بعد اكتشافها، كانوا جماعات متناقضة لغوياً ووجدانياً وثقافياً. لم يكن الفرنسي قادراً على التفاهم مع الإنجليزي أو الألماني، ولا المهاجر الإسباني قادراً على التواصل مع المهاجر البولوني. كانوا جماعات لغوية ممزقة لا وجود لأي وسيلة أو أداة للتواصل اليومي بينها. ولذلك ما أن استقروا في الأرض الجديدة حتى بدأوا بالتفتيش عن لغة توحد وجدانهم، وتجعل منهم جماعة واحدة لا جماعات ممزقة. أي كانوا يفتشون عن أداة تصهرهم كجماعات وتحولهم إلى ( جماعة واحدة). وهكذا تم التصويت على اختيار لغة من لغتين: الإنجليزية أو الألمانية، وبفارق صوت واحد تم التوافق على اختيار الإنجليزية. وهكذا تمكن المهاجرون الأوائل من تأسيس أهم رابط يحولهم لجماعة واحدة، أي أمة. لكن هذا لم يكن كافياً. ولذا وجدوا أن إنشاء سردية تاريخية واحدة، تجعل منهم أصحاب (تاريخ مشترك) هي العامل الحاسم, وهكذا، فالأمريكي اليوم (من شتى الأعراق والأصول) يتحدث لغة واحدة ولديه تاريخ واحد. هذا الأمر حدث في فلسطين، فالمهاجرون - المستوطنون اليهود الأوائل، كانوا خليطاً لغوياً متناقضاً، فاليهودي الفرنسي لا يمكنه التواصل مع اليهودي الروسي، واليهودي البولوني لم يكن قادراً على التواصل مع اليهودي الإنجليزي. ولذا توافق كل هؤلاء على اختيار لغة واحدة، هي لغة (الييدش) أو (العبرية الألمانية) التي وضع أسسها الألمان. ولكن هذا لم يكن كافياً لكبح حدة التناقضات داخل هذه الجماعات الممزقة، لأنها كانت تعيش ذكريات مؤلمة، فاليهودي الفرنسي يكره الإنجليز، والألماني لا يطيق البولونيين إلخ. كانت الصراعات داخل القارة الأوربية إرثاً ثقيلاً. ولذا تمّت عملية تأسيس وإنشاء سردية تاريخية تزعم أن كل هؤلاء اليهود هم (من بني إسرائيل) وأن لهم حق ديني في أرض فلسطين. وهكذا توحد وجدان الجماعات اليهودية المهاجرة من أوروبا بواسطة عاملين: اللغة والسردية التاريخية. على العكس من هذين المثالين، نجد أنفسنا نحن العرب أمام الحقيقة المفزعة التالية: أن لغتنا تتمزق وتتآكل جراء الإهمال وعدم الاهتمام الرسمي والشعبي، وأن تاريخنا أصبح تاريخات، كل بلد يروي التاريخ بطريقة تختلف عن البلد الجار.
إن الفكر التقليدي المهيمن، هو الأداة التي سوف تصبح مع الوقت معولاً لتهديم ما تبقى من أركان أمة ضعيفة مثل أمة العرب. ولذا لا بد من مواجهة هذا الفكر بطرح مشروع فكري- علمي لإعادة بناء الرواية التاريخية. وهذا يعني أن علينا أن نعيد النظر نقدياً بكل حلقة من حلقات التاريخ السائد، وقد يتطلب ذلك إعادة ترتيب الأديان. خذ مثلاً المفهوم المُلتبس التالي الذي يجعل من (بني إسرائيل) و(اليهود) أمراً واحداً، وكأنك عندما تقول بني إسرائيل فأنت تقصد اليهود والعكس. وهذا غير صحيح. لقد ميّز القرآن بين المفهومين: بنو إسرائيل قبيلة عربية قديمة واليهودية دين، وهذا مماثل تماماً للتمييز بين قريش والإسلام، فقريش قبيلة والإسلام دين.
ولذلك ليس كل يهودي (فرنسي أو بولوني أو روسي) هم من بني إسرائيل لمجرد أنه يهودي؟ ولو قبلنا بذلك ففي هذه الحالة سوف نقبل أن كل مسلم (صيني أو باكستاني أو إندونيسي أو روسي) هو من قريش؟ وهذا غير مقبول أنثروبولوجياً لأن نظام القرابات لا يقوم على أساس اعتناق الدين؛ بل بوجود روابط أسرية. اليهودية من وجهة نظري دين ظهر متأخراً، وهناك معتقدات وأديان كثيرة سبقت ظهوره، وقد يدهش المرء حين يتأمل في المكتشفات الحديثة في أرض اليمن، وقد يصاب بالحيرة حين يقال له أن في هذه الأرض دلائل أركيولوجية عن (مسيحية قديمة) سبقت المسيحية التي نعرفها؟ وسوف أكشف في مؤلفاتي الجديدة عن مفاجآت مذهلة يمكن أن تؤسس لنقاش أعمق حول هذه المسألة.
* كيف كانت بدايات اهتمامك بمشروع إعادة قراءة تاريخ الأديان؟ ولماذا أمضيت جلّ اهتمامك في ذلك المشروع؟ ألم تخش من الوقوع في فخ تكرار فكرة الدكتور كمال الصليبي التي طرحها في كتابه الشهير: «التوراة جاءت من جزيرة العرب» أم أنه جاء مكملاً لما بدأه الدكتور كمال؟
لقد شرحت هذا الجانب بالتفصيل في مؤلفي (فلسطين المتخيلة) عام 2007م. إن إعادة قراءة تاريخ الأديان القديمة في المنطقة، يرتبط بالحاجة لتأسيس وعي تاريخي عابر للتلفيق الاستشراقي، فقد كتب المستشرقون تاريخنا، ولم نكتبه بأقلامنا أو نروي أحداثه بصوتنا، وقد آن الأوان لأن نروي تاريخنا بصوتنا لا بصوت الآخر. كانت البداية في الثمانينات حين عشت في عدن (جنوب اليمن) لنحو عام كامل، وقد اطلعت على كتابات الهمداني هناك. في منتصف الثمانيات ظهر كتاب المؤرخ اللبناني كمال صليبي - رحمه الله. إنني اعترف بفضله العظيم في فتح باب النقاش، لكنني اختلف مع أطروحته جذرياً. إن المسرح الحقيقي الذي اقترحته نظريتي هو اليمن وليس أي مكان آخر. أليس من المدهش أن نعلم، أن اللغة العبرية تسمى في الأوساط العلمية الإسرائيلية (علماء الآثار والتاريخ) باللغة العبرية الصنعانية أو العبرية السبأية؟ في مؤلفي الجديد والضخم ( إسرائيل المتخيلة) الذي صدر منه أول كتاب (بنو إسرائيل وموسى لم يخرجوا من مصر- بيروت، رياض الريس 2017) وهو عمل مؤلف من 12 كتاباً، نشرت فيه الكثير من النقوش الآشورية ونقوش المسند التي تعود إلى 850 قبل الميلاد، وكلها تتحدث عن أورشليم في اليمن وليس في فلسطين؟ إنني أواصل إنجاز وبناء نظرية متكاملة تستند إلى علم الآثار والتاريخ والثقافة. ما أقوم به هو التالي: إذا تمكنا من تحرير تاريخنا من هيمنة القراءة الاستشراقية، فسوف نتمكن من رؤية تاريخنا بطريقة صحيحة.
* بعد تجربتك الطويلة في مجال البحث، كيف تصف أثر نتاج البحوث العلمية التاريخية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط؟
أعتقد أن العقل الغربي أكثر تقبّلاً للنظريات والأفكار الجديدة من العقل العربي. في أوروبا يمكنك أن تجد مساحات واسعة للنقاش حول الأفكار دون أي ضجيج فارغ. على العكس من ذلك، هناك أجواء مسمومة في العالم العربي، تمنع النقاش حول أي فكرة جديدة. العقل العربي اليوم هو عقل رجعي، مُهيمن عليه بواسطة نظام من التعليم، لا ينتج سوى خطاب تقليدي يكرر الأفكار الرجعية والماضوية والاستشراقية على حد سواء.
وبفعل جملة عوامل ضاغطة، أصبح البحث العلمي في العالم العربي تحت رحمة (خوف) صنعه التقليديون والرجعيون. كل الذين يعملون في ميدان (الأفكار الجديدة) خائفون، مذعورون، يترددّون أمام طرح أفكارهم للنقاش. هذا الوضع الشاذ والاستثنائي، خلق ما يشبه (محاكم تفتيش) غير مرئية، لكنها حاضرة في لحظة، تحاكم وتصدر الأحكام دون رادع أخلاقي أو قانوني. نحن نعيش في حقبة (خوف). كل كلمة قد يكون ثمنها حياة إنسان؟ ومع ذلك، أراهن أن البحث العلمي والتاريخي سوف يتواصل، ولن تتمكن أي قوة من إحباط مسيرته. التقدم والأفكار الجديدة هي من سسن الحياة، والقمع (وصناعة الخوف من الجديد) هي من أسس الموت التاريخي للأمم. وأظن أن أبواب الغرب سوف تظل مشرعة أمام نقاش علمي وموضوعي حول الأفكار الجديدة، بينما ستغلق الأبواب في العالم العربي أكثر فأكثر أمام أي فكرة جديدة. هذه هي الحقيقة المرّة التي يتوجب علينا الاعتراف بها. في زيارتي الأخيرة للمغرب، ولقائي مع طلاب الماجستير والدكتوراه في جامعة ابن طفيل (القنيطرة- الرباط)، وبعد أن ألقيت محاضرة مطولة أثارت نقاشاً حيوياً، تأكد لي بما يشبه اليقين، أن التأثيرات التي يمكن أن تتركها الدراسات الجديدة في حقل التاريخ، ستكون هائلة ومنتجة وذات فعالية حقيقية، حين يتحول نظام التعليم إلى (مختبر) لفحص وصنع الأفكار والتصورات، لا مجرد نظام لخلق وتوليد (وظائف) مدرسية، تجتر فيها أجيال وأجيال من الطلاب، الأفكار السكونية والجامدة نفسها. لقد أمكن لي رؤية جيل من الدارسين الشباب، أكثر جرأة في الاشتباك مع الموروث من أقرانهم في بقاع أخرى من الوطن العربي.
* يقول محمود درويش في مقاربة شعرية شكّيّة:
«..درستُ الأركيولوجيا، دون أن أجد الهُويّة في الحجارة، هل أنا حقًّا أنا؟!»، في زمن ما بعد الحداثة، هل تغيّرت وتعدّدت دلالات استعمالات علم الآثار لتشمل غير معرفة هُوية حضارة قديمة؛ لاسيما في علاقتها مع التاريخ؟
لقد لعب التيار التوراتي (اللاّهوتي) في علم الآثار دوراً مركزياً خلال 200 عام تقريباً في تشكيل وصناعة ( هويات ثقافية) لسكان الشرق الأوسط. من بين هذه الهويات الزائفة ما يزعم أنه (شعب كنعاني) و(شعب فينيقي) و(شعب فرعوني) وشعب (آرامي) الخ؟ لا وجود قط، ولا بأي صورة من الصور لأي حضارة قديمة باسم (الحضارة الكنعانية) أو (شعب قديم يدعى فينيقي أو آرامي). هذه تسميات توراتية لم يقدم اللاّهوتيون في علم الآثار أي دليل على وجودها التاريخي. من هم الكنعانيون؟ وأين حدود (حضارتهم) وأين نجد آثارهم؟ كان الغرض من خلق وصناعة هذه الهويات الزائفة، أن يستبدل سكان المنطقة (تاريخهم المشترك) القديم (بتاريخات مصنوعة). تماماً كما حدث في أمريكا عند اكتشافها، فقد خلق اللاّهوتيون الأوربيون هوية زائفة لسكان أمريكا (الأصليين) حين أطلقوا عليهم اسم (الهنود الحمر) وهم في الأصل أبناء حضارة المايا والأزتك؟ ولو سألت دارساً عربياً في التاريخ: أين حدود كنعان؟ فسوف يردد السيمفونية الاستشراقية القديمة المأخوذة حرفياً من التوراة: حدود كنعان من مصر حتى فلسطين والأردن ولبنان وسورية؟
حسناً ومتى كان ذلك؟ سيقول لك ربما 900-850 قبل الميلاد؟ وعليك أن تقول له: لكن هذه حدود الإمبراطورية الآشورية، فأين كنعان؟ هل كانت أعظم من آشور؟ أين آثارها العظيمة، أين مدنها؟ أين كنوزها؟ خرافة شعب كنعان هي نموذج واحد من خرافات كثيرة، وظفها اللاّهوتيون لخداع وتضليل شعوب المنطقة. الخداع هو وسيلة كبرى من وسائل الهيمنة. وكما يقول الراحل العظيم أدوارد سعيد: فالسيطرة والهيمنة على الأرض لن تكون ممكنة دون هيمنة السرد. إن سكان منطقتنا ضحايا سردية تاريخية زائفة صنعها اللاّهوتيون في علم الآثار والتاريخ.
* أشرت للعرب في كتابك الموسوم بـ (غزال الكعبة الذهبي: النظام القرابي في الإسلام) بأن: «فكرة وجودهم داخل أمة جنينية قابلة للتشكّل كأمة تاريخية، مفاجأة لوعي القبائل نفسها»؛ ألا تعتقد بأن طبيعة بنية العقل العربي قبل الإسلام كانت مهيأة للتشكل كأمة تاريخية، وبالتالي لم يكن مفاجئاً؟
ثمة حقيقة منسية ومُتلاعب بها عن ماضي العرب. يُزعم دائماً أن العرب (أمة صحراوية) بدوية؟ وهذا غير صحيح من منظور تاريخي. العرب في الأصل أمة بحرية. لا توجد سوى أمم قليلة على وجه الأرض لديها هذه السواحل البحرية الطويلة والغنية بالثروات. وربما يكون العرب هم الأمة التي تملك أطول السواحل في العالم. فكيف ومتى جرى انزياح العرب نحو الصحراء؟ ثمة فهم خاطئ لما ورد في كتب التراث عن (العرب العاربة والعرب المستعربة). ولو أننا وضعنا هذا المفهوم في إطار الحقيقة التي أعرضها، فسوف يكون لدينا فهم مختلف لمعنى (العرب العاربة) أي الجماعات القديمة التي جرى إبعادها من الساحل نحو الصحراء، وهؤلاء تعرضوا لغزوات متتابعة من قوى إمبراطورية: آشورية- بابلية، يونانية، رومانية الخ. لقد استولت قوى عظمى في العالم القديم على سواحل الجزيرة العربية للإمساك بخطوط التجارة الدولية، وتأمين تدفق البخور والذهب. ولعل الحملة الرومانية التي انتهت بالاستيلاء على ميناء عدن عام 50 قبل الميلاد، هي نموذج صارخ عن طبيعة هذا الانزياح. كان الرومان بحاجة للذهب لمواصلة الحرب ضد فارس، ولذا نظموا إنزالاً بحرياً في سواحل عدن (ثم تكرر الأمر ولكن بفشل ذريع عام 25 ميلادي حملة غالوس). أما تعبير (العرب المستعربة) فقصد به الجماعات التي أصبحت (بدوية) في حقبة تالية. إنها الجماعات التي انزاحت في عصور متأخرة. بهذا المعنى، تكون القبائل العربية قد بلورت وعيها لنفسها (كأمة ممزقة) تحت ضغط التحدي التاريخي لوجودها.
* المساحة الأخيرة لك، فقل ما تشاء دكتورنا العزيز؟
في مؤلفي السابق (فلسطين المتخيّلة) نقلت جغرافية التوراة من فلسطين إلى اليمن. وفي مؤلفي الجديد ( إسرائيل المتخيلة 12 كتاباً) نقلت جغرافية التوراة إلى التاريخ اليمني (السبأي- الحميري) استناداً للنقوش المسندية التي تسجل أسماء ملوك بني إسرائيل واليهود والمدن والممالك التي ترد في التوراة. وبذلك، سوف تسقط كل المزاعم السطحية التي تقول إننا نفتش عن (تشابه في أسماء الأماكن). لقد ولدّ تخيّل فلسطين كأرض ميعاد، تخيلاً موازياً، فما دامت في الأرض الموعودة فهذا يعني أن مملكة إسرائيل قامت هناك. وهذه هي إسرائيل المتخيّلة التي لم يعثر على علماء الآثار بعد 70 عاماً من التنقيب على حجر واحد يثبت وجودها هناك.