ركبت السيارة متجها إلى السوق المركزي، فـ(المقاضي) أرخص وأحسن وطازجة - إذا كانت غير مغشوشة! وما إن دخلت الـ(هاي وي) حتى حوصرت من جميع الجهات.. لا أستطيع التقدم إلا بسرعة نملة مريضة ولا أستطيع العودة طبعاً، وألاحظ درجة حرارة السيارة تتصاعد، وسبحان الله توقف تدبيري وحيلتي وتفكيري.. كأن السلاسل تقيد كل صغيرة وكبيرة حتى في أحاسيسي. كل ذلك بسبب الزحمة، أنظر إلى الأمام كأني أنظر إلى أفق مصنوع من سيارات ... صرت أوبخ نفسي: (يعني حبكت إلا تروح السوق هالحين؟) ولكن اليوم الجمعة عصراً، لا مدارس ولا دوام ولا هو عيد واختياري كان مناسباً فما الخطب إذن؟... لا بد أنه حادث سخيف و(أولاد الذين) يعطلون السير ليتفحصوا ما هي الأضرار؟ ومن المخطئ؟ وهل تصافعوا أم تصالحوا؟ وهل جاءت سيارات المرور أم أنها على بعد (مئات) الكيلومترات ولا يسمح لها أحد للوصول و(فك الزنقة)، ولكنني لا أسمع صوتاً! ثم أنني لا أرى في أفق السيارات هذا مساراً يتحرك، وكأن كل شيء قد تجمد!.. كيف يمكن أن تتجمد الحياة في هذا القيظ؟ كل شيء قاحل ولاهب.. الجو والسيارات ومن بداخلها ومن خارجها، حتى أنا قاحل وأشعر أني تصحرت، ولا تنقذني قنينة الماء في ثلاجة السيارة، فقد أطفأت المكيف واتكلت على الله حتى لا نحترق أنا والسيارة.
فجأة لفتت انتباهي سيارة في النهر الخالد! مجموعة من المراهقين يحملون أعلاماً زرقاء لفريق الهلال على ما أظن، ويهزجون تلذذاً بالنصر، أو ربما ضد (النصر)، ففهمت أنها (كورة) وأنني يجب أن أدفع أنا وعائلتي وعملي وسيارتي وذهني ومشاعري ثمن لعبة كرة قدم! .. لم أكن يوماً ضد الرياضة وكرة القدم بالذات.. عندما كنت طفلاً كنت لاعباً ماهراً في كرة القدم، وعندما نتوزع فريقين للعب القدم ينشب نزاع بين الأصحاب حولي، فالفريق الذي أكون فيه غالباً ما يفوز، وليس هذا مدحاً بطفولتي، إنما أردت القول إنني أعشق كرة القدم وكأنها جزء من دورتي الدموية، وعندما أشاهد مباراة في التلفاز أتفاعل معها كالطفل العاق، وأعتبر هذا من أجلِّ حقوقي، ولكنني الآن متقاعد، ولن أقول كم عمري ليس تهرباً من الموت، فهو أقل ما يمكن تقديمه تجاه وطن! إنما لا يمكن أن أكون مؤذياً لنفسي وللآخرين لمجرد أني أفرح بمباراة!.
خرجت من (الهاي وي) بأعجوبة ناوياً العودة إلى البيت، فالوضع لا يترك لك أي مجال للتفكير سوى العودة إلى البيت واللجوء لرشّة حمام ثم المكيف، وسيقول لك أحد ما، ما عدا زوجتك طبعاً، أو أن تقولها لنفسك جزاك الله خيرا، فأنت على الأقل حاولت ولم تفلح، وخيرها بغيرها! حتى لو تلقيت رزالة محترمة من أم العيال أنك لا تهتم بها ولا بأولادك، فهذا كله بسيط، وهو بهارات الحياة على كل حال. ثم دخلت في شارع فرعي مكتظ أيضاً، ولكنه ليس بمقدار الـ(هاي وي)، ففي مثل هذه الحالات غير النادرة لا تستطيع إلا أن تهرب من الزحمة إلى زحمة أقل منها! وبما أنني أسير ببطء صرت أقرأ لوحات المحلّات، وأكثرها -طبعاً- محلات (أبو ريالين) ومطاعم (المندي والأكلات الشعبية) التي انتشرت كالنار في الهشيم ولم تخضع أبداً لترشيد الإنفاق.
وجدت لوحة ضائعة وليس لها أي علاقة -أو هكذا يبدو لي- بالمحلات التي تحاصرها من جميع الجهات، كتب عليها (جمعية الثقافة والفنون)، وهي قديمة وممسوحة تقريباً، بحيث تستخدم كل طاقاتك اللغوية لتجميع أوصال الحروف وتقرأ اللوحة! بينما لوحات (أبو ريالين) كأنها خطت للتو، وألوانها زاهية، وبالرغم من كثرة تلك المحلات، إلا أنها مزدحمة، والدخول والخروج منها يكاد يكون معركة، فالداخل بها يهم بسرعة وكأنه سيفقد شيئاً مهماً، والخارج منها يهم بسرعة أكبر ربما ليلحق بـ(أبو ريالين آخر) أو هكذا يبدو لي، والذين يحشرون سياراتهم أمام الجمعية بمواقف صحيحة -حسب مزاج المرور- أو غير صحيحة -دون أي اعتبار للبشر العابرين بذلك الشارع لا يدخلون الجمعية، إنما يتسابقون لدخول (أبو ريالين)، وكأن الجمعية مكان مهجور، وهي على أية حال لم تستطع تقديم ما يجعلها تقتطع جزءا يسيرا من الزحمة لصالحها! ثم ما علاقة الثقافة بالفنون، هل كل فنان مثقف؟ أو كل مثقف فنان؟ .. أنا لست فناناً فليس لدي أذن أو مخ موسيقيين، ولا أستطيع رسم قطّة، ولست شاعراً ولا مطرباً، فهل أنا لست مثقفاً؟ ربما! ولماذا أحشر نفسي مع المثقفين؟ وما هو تعريف المثقف؟ أو الفنان؟ وكيف أميّز بين المثقف وغير المثقف في زحمة كرة القدم أو محلات (أبو ريالين)؟ وإذا تصدقت -قربة إلى الله تعالى- على الجمعية وجددت لوحتها فهل أكتب (جمعية أبو ريالين للثقافة والفنون)؟ ربما سيكون الإقبال (زحمة) على الجمعية! ولكن لا يوجد فنان أبو ريالين! ولا مثقف أبو ريالين! إذن نحن بحاجة ماسّة لمسح الثقافة والفنون أو أي مصطلحات مشابهة من أذهاننا لأنها لا تتناسب مع خصوصيتنا! .. للحديث بقية.
- د. عادل العلي