د. حمزة السالم
في البلاد المتأخرة ثقافياً، الأدلة والإثباتات والحقيقة والواقع والمنطق والعقل لا وزن لها، إنما الفصل والحكم على صحة العلم وبطلانه هو شهادة التخصص والتوظف بها في وظيفة رسمية. وليس بعد هذه الحجةِ (حجة التخصص) حجةٌ في تلك البلاد. فالعُرف عندهم، هو أن شهادة التخصص هي المعتبرة في صحة القول لا علميته ولا حقيقته.
علم الشريعة ليس كباقي العلوم، فالأصل فيه أن المسلمين جميعهم متخصصون فيه.. فأبو بكر وعمر وعمار وعائشة وابن عوف وبلال وسعد وأصحاب رسول الله -عليه السلام- كلهم مختلفون في تخصصاتهم الدنيوية التي قامت بها معيشتهم، ولكنهم مجتمعون في معرفة العلم الشرعي. فيرد عمار على عمر وعائشة على ابن عباس، -رضي الله عنهم أجمعين-.
فعلم الشريعة ليس تخصصاً، بل واجب على كل مسلم.. وما فسدت حال المسلمين منذ انقضاء القرون المفضلة إلا بتقسيم المسلمين إلى رجال دين وعوام. فتعريف رجل الدين في جميع الأديان هو من لم يدرس إلا العلوم الدينية ثم قامت حياته عليها (كوظيفة أو ترهب) ثم حقق حصول شرط الكهنوتية وهو كونه يمنع الناس في بحث مسائل الدين ولا يُسمح له في التحدث بدينه إلا كان بترديد السائد. ولذا ابتعدت الأديان كلها عن منهج الحق إن كانت حقاً، وزادت في ضلالها إن كانت باطلة أصلاً.
فحجر العلم في مدرسة واحدة هو قضاء عليه بالحفظ والتكرار.. فبالتقادم تلتبس على أتباع المدرسة محفوظاتهم فيخلطونها ويلتبس عليهم بعضها ببعض، فلا هم قلدوا من قبلهم ولا هم فهموا حالهم ولا هم سمحوا لغيرهم أن يُعينهم على فهمها.. كما أن قيام حياة الأتباع على هذا العلم المحجور عليه، هو عامل آخر مكمم لأفواههم. ثم متى تحقق هذا كله، تحقق هدف نشر الجهل في الناس. فالإنسان متى اتكل على غيره في كفاية أمره، جَهِلهُ. فكيف إن أُمر بالاتكالية وحُمد عليها؟.. فهنا يصبح الإنسان غليظ العقل بعيد الفهم عديم المنطق، قليل الإيمان (فمن يعبد الله على بصيرة ليس كمن سمع الناس يقولون شيئاً فقاله).
وهنا يأتي عامل ثالث هادم للأديان، وهو خوف الأتباع من جهل عوام الشارع.. ومن هنا تجد أن أتباع هذا النوع -من المدرسة الدينية- محبوسون عن قول الحق بمحابس ثلاثة: تحجُر عقولهم على مدرستهم، ورق قيام حياتهم على تخصصهم الديني، وخوفهم من جهل الشارع (الجهل الذي صنعوه هم بأيديهم).
وزبدة المسكوت عنه في التخصص الشرعي تحكيه شكوى الجرجاني حين قال: «ولو أن أهل العلمِ صانوه صانَهُم... ولو عَظَّمُوه في النفوسِ لَعُظِّما» «ولكن أهانوه فهانوا ودَنَّسُوا... مُحَيَّاه بالأطماعِ حتى تَجهَّما».