حتى اختلافنا في تفاصيل صغيرة أصبح انتفاضة، لم تعد غزة تتسع لنا جميعا يا صديقي، قالتها لتعود به لتفاصيل المقهى الذي التقيا به، وما زلت مصرة لن أتعامل بـ«الشيقل» حتى لو مت جوعًا.
- لكنك تتعاملي بالدولار وهو أحد العوامل التي سعت جاهدة ليبقى الشيقل عملة لوطننا، لا تذكرني تلك البدايات يكفي، سارت إلى جانبه على رصيف ألقى بهما على حي قصفته قوات الاحتلال، وقفت لبرهة معلقة على أذنيه سؤالاً: كم من الأحلام دفنت هنا؟
الأيام ستنجب أحلاما أخرى لا تكترثي، هكذا رد على سؤالها.
- زهوة؟ اسم جميل، لماذا اخترت التصوير؟
ضحكت: كنت مفتونة به إبان إقامتي في السعودية لأنني عشت في مدينة فنانة ظننت أنني سأقضي عمري على ضفاف البحر أراقب الموج بعدستي، لم أتوقع أنني سأعود هنا غريبة في بلدي منقسمة كتقسيم هذا الوطن، مضت تتحدث بصوت تزدحم فيه عثرات الغربة والحيرة والكبت، قطعت حديثها كدت أفقد عمري هنا وأنا ألتقط صورة لطفلة تبحث عن دميتها التي فقدتها. وقلبها الذي تكسر خوفا وحزنا هكذا أكمل عنها ما كانت تنوي قوله. قفلا عائدين إلى شارع فلسطين، تعلمي زهوة هذا الشارع يعني لي الكثير فيه عشت ومنه جمعت الكثير من موادي الصحفية، وعشقك؟ قهقه لم تعد فلسطين صالحة للحب أكثر منها للجراح.
-هل عشت قصة حب؟
- ليس بعد، الحب هنا بنكهة الدم، وطعم الموت.
افترقا، وكلاهما يحمل للآخر علاقة لا يدري بعد ما هي، في غرفتها وأمام المرآة التي كثيرا ما شهدت ملامح وجهها الغريب عنها تأملت عينيها، وعادت تطالع يدها التي لمست بها كف عمار القابض به رزمة أوراق، وصوته يعزف في ذاكرتها مقام الغربة «الحب هنا بنكهة الدم وطعم الموت» عقبت على ذلك الصوت داخلها، فعلا وربما أننا شعب لعنه الحب. عادت إلى كفها الذي تؤثث سبابته فصة من لؤلؤ أرهقها الزمن، سرحت في خيالها لحظة ما لو استبدل عمار تلك القطعة التي تحلقت حول سبابتها بخاتم من ذكرى، أو ارتباط كزوجة، وعادت لمرآتها باحثة في عينيها عن بصيص من أمل.
مضت ساعات الليل وزهوة غارقة بين خيال وذكريات صور، وأشرقت الشمس ليحين وقت نزولها إلى مقهى العودة.. جلست على الطاولة نفسها التي كان عمار يجلس فيها بالأمس تقلب صفحات الجريدة تطالع تقرير عمار عن أحداث القصف، طلبت قهوتها وراحت تقرأ التقرير بعناية، وقفت كثيرا أمام اسم المحرر «عمار» رددت اسمه كثيرا وبينما هي تقرأ إذا بعمار يدلف من باب المقهى طالبا قهوته قبل أن يحدد مكاناً يقتعده، وقف مندهشا زهوة؟ صباحك سعيد، أهلا عمار.
راحا يتحدثان عن القصف ونقص الخدمات الإنسانية عن غزة وأشياء أخرى سحبت حوارهما إلى الشتات، رشف آخر فنجانه بصوت مرتفع، وكأنه يخبرها بموعد مغادرته، نسيت أن تظهر له تعابير تدله أن قلبها ينتظر مستعمراً لطيفاً، دوى انفجار عنيف بعد خروجه بدقائق معدودة، صرخت وأول ما صرخت بـ«عماااااااااااار» صرخة ضاعت في غبار الخيبات.. صرخة عاشقة.. خائفة.. مستنجدة، تذكرت أنها مصورة، ونسيت خوفها وحقيبتها وصحيفتها التي كانت تقرؤها، اختطفت عدسة الكاميرا وراحت تختطف من تلك المأساة مادتها التي ستحظى بالسبق الصحفي، توجهت لدارها منشغلة بهاتفها النقال واتصالاته التي تتوالى على عمار دون رد، تذكرت مقولته «الحب هنا بنكهة الدم وطعم الموت» بعدها ألبست قلبها حداد اللاحب وكتبت مقولته على مرآتها تقرؤها كل صباح لتكون تعويذة قلبها ألا حب.
- علي المالكي