الإنسان هو الطاقة الخلّاقة القادرة على التجاوز والإنتاج, فمن الإنسان وإلى الإنسان يكون ذلك التجاوز في أجلّ صوره وأجملها وأكثرها فائدةً وهو الإبداع لأن الإبداع قفزة إلى الأمام, وهو حركة مستمرة تُعبّر عن حيوية الفكر المنتج الذي لا يتقولب في أطر ثابتة ضمن قوالب جامدة تحوّله إلى الآلية والنمطية ولذلك فقد سعى الفكر إلى تحديث ذاته, وإعادة ترتيب وهندسة آلية التفكير لديه ليرتقي من أطر القولبة والجمود إلى أفق الاتساع والحركة ليدخل عوالم التجديد والحداثة التي تشكل الصيغة الأساس التي يشيد عليها الإنسان الخلاق كياناً تعبيرياً يفصح عن هواجسه ومكنوناته الإنسانية وما يستشعره تجاه الوجود والحياة. وأمام هذا التطلع إلى الأفق الأرحب وحركة الحياة, لم يقف امرؤ القيس أمام الصحراء المترامية الأطراف شاعراً عاجزاً, يقف أمام إرث سلطة الوالد الحاكم, ولم يتقيّد بما فرضته التقاليد الاجتماعية بل تمر على ذلك الإرث والسائد, وأوجد طريقاً مختلفة فاستنّ طريقه باتجاه مختلف وحدّد سمتاً جديداً فخرج على نُظم الأشياء والمفاهيم المتوارثة ضمن نظام صارم كان الخروج عليه يُعدّ جريمة ويلقى استهجاناً, فغيّر في نظم كُنْه الأشياء وبدّل ماهيتها وصيّرها فاخترع المعاني وأبدع صوراً لم يُسبق إليها ولذلك كان بنظر ابن رشيق مخترعاً جاعلاً من امرئ القيس المآل والدليل فقال في ذلك: «المخترع من الشعر هو ما لم يسبق إليه قائله ولا عمل أحد من الشعراء قبله نِظره أو ما يقرب منه» كقول امرئ القيس:
سموت إليها بعد ما نام أهلها سمو حباب الماء حالاً على حال
والتوليد هو أن يستخرج الشاعر معنى من معنى شاعر تقدّمه أو يزيد فيه أما الإبداع فهو إتيان الشاعر بالشيء المستظرف فالاختراع للمعنى والإبداع للفظ.
فلم تكن الوقفة الطللية عند امرئ القيس وقفة عادة أو قانوناً فرضته طبيعة التجربة الشعرية بل كانت وقفة استبصار وتأمل لإثبات الذات التي تريد تعرية الواقع وكشف الأسباب التي تقف وراء عجز الإنسان الجاهلي تجاه الطبيعة ولينّه في مواجهة الصحراء المترامية الأبعاد التي جعلت منه إنساناً منقاداً إليها ففي وقفته المشهورة:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فهو يدعو إلى التوقف بدلاً مما درجت عليه عادة البدوي في التنقل وما دأبت عليه سُنةُ الحياة في تلك الحقبة التي كان ديدنها الرحيل والسفر وراء الكلأ ومنابع المياه, إنها محاولة للبقاء وهي تحاول استبصار المكان بكل ما فيه من حدود جغرافية بحثاً عما يدفع الاستسلام لدوافع الرحيل التي فرضتها الطبيعة القاسية والظروف المناخية المسيطرة
إنه الرفض والدعوة إلى التأمل في محاولة لانتصار الإنسان على الطبيعة والتمرد على ظروفها القهرية, ففعل الأمر الذي استهل به معلقته إنما هو تعبير عن محاولة النفس للمواجهة وهي إرادة تؤكد الثبات وسيادة الذات على الطبيعة بدلاً من حالة الهروب والقبول بما هو دافع إلى محاولة تغييره, فهو صاحب السلطة فيأمر, ولا يبدو البكاء ناتجاً عن ضعف بل هو بكاء القوي الذي يعيش الماضي بما يحمله ذلك الماضي من ذكريات, فهو المهجرّ البعيد والقريب إلى تلك الأماكن التي يعرف ما فيها من حجر وبشر, وهذه المعرفة هي المعول الذي يمهد له النور ليحطم من خلالها صنَمية الاستسلام والقهر
لقد مثل امرؤ القيس المثال والأنموذج, فكان تجسيداً لانعتاق الذات من أسر عبوديتها وانطلاق الفكر من حدوده المعرفية, فأوقد مصباح تجربة اقتفى أثره فيها من أتى بعده من الشعراء فحمل راية التجدد وحسبه أنه لم يكن مصورّاً للواقع, بل مغيّراً له ومؤسساً لمستقبله.
- د.طامي دغيليب