وكان مشروع عائشة راتب يتضمن رفع الحد الأدنى لسن الزواج إلى 21 سنة للرجال و18 سنة للنساء. وردا على ذلك، أصدر محمود فتوى بعنوان «في السن القانوني للزواج»، حيث تطرق إلى ثلاثة شروط إلزامية يجب أن تنطبق على أية فتاة قبل الزواج: (أ) الصحة النفسية والعذرية؛ (ب) مستوى نضج كاف ومعرفة بتربية الأطفال؛ (ج) القدرة على إدارة المنزل».(44) ووفقاً للشيخ، فإن سن الـ16 هو السن المثالي لزواج الفتاة. وجادل محمود بأن الرجل يجب أن يتزوج عندما يبلغ ويحس بثورة غرائزه. وفي سيرته الذاتية، قال محمود إنه تزوج في سن الـ13. (45)
الشيخ يعارض اقتراح ليبرالي بتقييد تعدد الزوجات
كما اتخذ الإمام الأكبر موقفا معارضاً لتقييد تعدد الزوجات، وأشار إلى أن الشريعة الإسلامية تسمح للرجل بأن يتزوج أربع زوجات طالما كان قادراً على أن «يعدل بينهن» ، أي توفير المأوى والغذاء وتلبية مطالبهن «المادية» (أي الجنسية). وعلى الرغم من أن الزواج بأكثر من زوجة واحدة لم يكن منتشراً في المجتمع المصري، فإن محمودا أكد أن هذا الأمر ليس محظورا، وأضاف أن تعدد الزوجات مستمد من كلام الله ومن سنة النبي محمد. ولذلك، فإن أي محاولة لتقييد هذا الحق تعد هرطقة. وأشار الشيخ أيضاً إلى أن الأسباب العملية للسماح بتعدد الزوجات هي «التداعيات الاجتماعية المحتملة للزواج الأحادي القسري: كالشعور بالوحدة، وممارسة الخيانة الزوجية، والإصابة بالأمراض الجنسية». وبناءً عليه، فإن هذا النوع من الإصلاح الليبرالي ينتهك حقوق الرجال، ويسبب مشقة غير ضرورية لكل من الزوج والزوجة. (46) كما أغضب الإمام الأكبر الإصلاحيين الليبراليين بإصدار فتوى استفزازية بعنوان «في حكم المسلم الذي يضرب زوجته». وأثارت هذه الفتوى الجدل، لأنها أباحت أن يضرب الزوج زوجته لإصلاح سلوكها والحفاظ على الزواج. ومن هذا النص، كان من الواضح أن محمودا افترض، بداهة، أن الزوجة مذنبة في أي جدال مع زوجها، ولذلك تستحق العقاب. (47)
وكما ذكرنا، فقد ناصرت جيهان السادات هذا الإصلاح، وكانت السيدة الأولى تفهم جيداً أن السبيل الوحيد لتمرير القانون هو تجنب وصفه بالعلماني. ومن ثمَّ، قامت بتعزيز موقفها الاعتباري داخل إطار الخطاب الديني، وسعت إلى الحصول على مصادقة رجال دين بارزين كان في مقدمتهم وزير الأوقاف الشيخ عبد المنعم النمر والمفتي الشيخ جاد الحق. (48) ومرة أخرى، جاء جواب محمود على شكل فتوى بعنوان «في الأحوال الشخصية ومجلس الشعب»، حيث ميّز بين المتمسكين بإخلاص بوصايا القرآن من جهة، وبين أولئك الذين يحرفون عمدا معناه الأصلي ويحاولون إلباسه معنى «علمانيا» غير لائق من جهة أخرى. وزعم الشيخ أن المجتمع المصري متدين بطبيعته ويدعم التطبيق الكامل للشريعة الإسلامية؛ ولكن طالما امتنعت الحكومة عن إجراء استفتاء، فإن تطلعات الشعب لن تكون ممثلة بعدل في البرلمان. أكثر من ذلك، تعتبر محاولة تفسير الشريعة الإسلامية بطريقة ليبرالية تشويه للشريعة. وخلص محمود إلى أن البرلمان يجب أن يبتعد عن التعديلات المُهرطقة، لأن الشريعة لا تتضمن أي قيود على الطلاق أو تعدد الزوجات. (49)
وبالفعل، نجحت، في نهاية المطاف، الضغوط التي مارسها الأزهر والجمهور المتدين على البرلمان؛ ففي 10 أغسطس 1976، استلم البرلمان مشروع قانون منقحا حُذفت منه معظم البنود الليبرالية المبتدعة التي وردت في التشريع الأصلي. (50) ووفقا للقانون المنقح، يمكن للرجل تطليق زوجته أو ممارسة تعدد الزوجات دون موافقة القاضي. وكانت القيود الوحيدة هي أنه يجب إبلاغ الزوجة عن الطلاق أو ممارسة تعدد الزوجات مقدماً، وأنه يمكن للزوجة أن ترفع دعوى لطلب الطلاق؛ ولكن، في كلا الحالتين، لا يوجد تهديد بعقاب من شأنه أن يجبر الزوج على الاستمرار مع زوجته الأولى. (51)
وبالرغم من هذه النكسة، رفض اللوبي الليبرالي الاستسلام؛ فبعد نحو عام ونصف العام، أصدر الرئيس مرسوما تضمّن، من بين أمور أخرى، توسيع قدرة المرأة على طلب الطلاق ووضع بعض القيود على تعدد الزوجات. وطُلب من البرلمان أن يقبل لغة مشروع القانون الأصلي. وفي خطاب عام في 1 مارس 1978، أعلن الرئيس السادات:
«أطلب من حكومتي إصدار قانون للأحوال الشخصية بسرعة لتحقيق الأمن والحماية للمرأة المصرية. هذا هو ما يطالب به الدين -في كل من الإسلام والمسيحية- قولاً وروحاً. ويجب أن تحصل المرأة على جميع حقوقها!» (52)
وفي حين استمر النقاش والجدل تغيرت الظروف في نهاية هذا العام. ففي 17 أكتوبر، توفي الشيخ محمود بسبب مضاعفات من عملية في المرارة. وحضر جنازته أكثر من خمسين ألف مصري من مختلف أنواع الطيف الفكري وحظيت بتغطية صحافية واسعة. (53)
يتبع
حمد العيسى - الدار البيضاء
hamad.aleisa@gmail.com