- مما لا ريب فيه أن اللسان إحدى أخطر أدوات الإنسان – إن لم تكن أخطرها- في التعبير عن وجوده، أو عن ذاته، أو تصوراته حول الآخر والكون والحياة، ورسم ملامح علاقته بها وحدود معايشته إياها ومعايشتها إياه، رغبةً أو نفورًا، رفضًا أو قبولًا، إقبالًا أو اجتنابًا، استمرارًا أو كفًا.
- المفارقة المحيرة للمتأمل أن كثيرًا لا يبدي كثير اهتمام بهذه الحقيقة، ولا يحفل بمضامينها أو نتائجها -إما بدافع الغايات أو اندفاع الرغبات - في بناء ذاته أو هدمها على المدى الطويل أو القصير، وتكوين الصورة المستقرة عن تلكم الذات إيجابًا أو غير ذلك. ولعل أدوى أدواء الكلمة خوض غمار أخطارها دون اكتراث بحقيقة تلك الأخطار، ودون اعتبار لمآلات التاريخ وتحولات الأزمان التي أسن سننها أن تمحص الحقيقي من المزيف، وتفرز العذب الفرات من الملح الأجاج، وتميز الخبيث من الطيب، لتبقي هذا ولا تذر ذاك!
- وكم من الآثار كان مآلها الاندثار، حكم أصحابها على أنفسهم – علموا أم جهلوا – بالفناء في دائرة الشقاء، وكانوا قد ظنوا آثارهم تلك – لداعٍ أو لآخر- من معجزاتٍ الخلود وسبيلًا إلى الترقي فإذا هي إلى التردي. وكم من الصيحات جاءت بها اللغة ما كان ركوب موجه إيذانًا بخرق المركب وغرق من ركب، وإقرارًا بانتحارٍ بئيسٍ صوَّره الوهم في حينه حياةً للمجد والبقاء، فما لبث أن زال وأزال، وأورث ضد ما كان منتظرًا منه أو متأملًا فيه. وبقيت الحقيقة ومن تصدى لعناء حملها والنوء بحِملها!
- وما أكثر ما كانت اللغة، عبر تاريخها الطويل، وبصفتها الإنسانية الخالصة، ميالةً ميلًا عظيمًا إلى إنصاف الحقيقي والمتجرد، ودفع المزيف ودحض الموهم من الأفكار والتصورات، وإجلائها كما هي، أو كما ينبغي أن تتجلى أو تكون. وليس لهذا الإنصاف من اللغة أن يكون اعتباطيًا، بل هي عبقرية آيتها التي لا بد – متحدةً مع سيرورة سنن الزمان - أن تنصف المقاصد، وتؤطر المفاهيم كما هي أو كما هي حقيقتها، وإن تطلب ذلك زمنًا أوهمت فيه اللغة المتلاعبين بها إلى استجابتها فيما هي ماضيةٌ في طريق استجوابها.
- العلاقة بين اللغة وذات مستغلِّها تناسبية طردية، يرتبط بُعد المنطق فيها كمًا وكيفًا ببُعد رؤية تلك الذات، مع وضوح تلك الرؤية. فبامتداد فراغ الداخل يكون انتفاخ اللغة مُخرَجًا ومَخْرجًا. يتخذ هذا الانتفاخ من الإيهام والإبهام والمخاتلة والمخايلة والمحايلة صورًا مفضلةً له. وعلى العكس تمامًا، بقدر ارتواء العمق تأتي اللغة بسيطة كثيفة، واضحة، متأنية، لا متألية، مهذَّبة، لا «مهذذة»، حاملةً محتملة، دؤوبًا في الطلب لا في الادعاء، فهي إلى تقرير المحاولة أقرب منها إلى زعم البلوغ.
- في لعبة اللغة: البقاء للأحوى و»البلاء» للأخوى! قد يورِّي هذا بصورة ذاك وقد يتوارى ذاك خلف هذا، ورياح دورات الزمان كفيلةٌ بنحت معطيات اللغة وتصويرها وكشف حجب المخبوء في ثناياها والجلاء عما تحمل حقيقةً كان أم وهمًا، ظاهرًا جليًا أم مستترًا متواريًا، فإن كان هشيمًا ذرته وإن يك فيه خيرٌ أَجْرَتْه! المكاسب المؤقتة في اللغة ربما تستحيل خسائر مؤبدة .. وكم ينبغي على المغامرين ومقتحمي غمار الكلمة مراعاة فارق التوقيت لما هو خارج الآن واللحظة .. إذ اللغة أداة الإنسان التي يبني بها ذاته والصورة عنها أو يهدمها عبر الزمن!
- اللغة إنسانية بطبيعتها، تنتصر عبر الزمن للموضوعي، كما تضع غير الموضوعي وغير العقلاني في إطاره المناسب تمامًا. في قانون عبقرية اللغة: لا يصح إلا الصحيح!
- المخادعون بلغتهم أكثر المخدوعين بها!
- الهادم باللغة مهدوم، وليس بباقٍ في ذاكرتها إلا رسم كل بان بها!
علي الجبيلان - الولايات المتحدة – إنديانا