د.عبد الرحمن الحبيب
استخدم مصطلح «الدولة العميقة» في تركيا منذ عقود، لكنه راج مؤخراً ليمتد لبلدان ترتكز على المؤسسة العسكرية والبيروقراطية، ثم امتد وصار شذر مذر وذهب به السياسيون مذاهب شتى على كثير من الدول حتى وصل لأمريكا.. من تركيا نبدأ وإلى أمريكا نختم..
بداية، ما «الدولة العميقة»؟ يُقصد بها مجموعة من تحالفات مصالح وشبكات علاقات داخل البلد دون تنظيم محدد، يتكون عناصرها في أجهزة المخابرات والجيش والأمن والإدارات البيروقراطية، وتشمل أعضاء برلمان وسياسيين ورجال أعمال وإعلاميين..الخ. هؤلاء قد لا يعرفون بعضهم بعضا لكنهم يعملون لهدف مشترك يتمثل بالدفاع عن امتيازاتهم خارج إطار أنظمة الدولة والمجتمع.. وفي أحيان أخرى قد يكون هدفهم حماية الدولة على المدى البعيد لأهداف إيديولوجية قومية أو دينية خارج إطار قوانين الدولة. المقتنعون بوجود «الدولة العميقة»، يرونها تمثل تحدياً للدولة الشرعية، باعتبارها دولة داخل الدولة أو من التعبيرات المشابهة: دولة فوق الدولة، دولة سرية، دولة خفية، دولة موازية.. إلخ.
من الناحية التاريخية، هناك من يرجع بدايات تشكل «الدولة العميقة» إلى تأسيس الجمعيات السرية في عهد الدولة العثمانية أوائل القرن التاسع عشر، مثل اللجنة السرية التي أسسها السلطان سليم الثالث كجيش سري لحمايته، حتى أن الصدر الأعظم (رئيس الوزراء بلغة اليوم) لم يعرف عنها. بينما يرى البعض أن ظهورها تزامن خلال فترة جمعية الاتحاد والترقي أواخر القرن التاسع عشر وما تبعها من تحالفات سرية أثناء اضمحلال الدولة العثمانية ونشاط حركة التتريك.
أيا كانت البدايات فهذه «الدولة العميقة» صار من المعتاد الإشارة لها في تركيا منذ تسعينات القرن المنصرم، فقد تحدث عنها الرئيس التركي الأسبق سليمان ديمرل ورئيس الوزراء الأسبق بولنت أجاويد الذي يعد أول من صرح بها علناً بهذا المسمى. ويقصدون بها عناصر رفيعة داخل أجهزة المخابرات والجيش والأمن والقضاء والبيروقراطية الحكومية تزعم أنها تدافع عن الدولة لأهداف قومية.
إلا أن من صدَّر المصطلح للعالم هو الرئيس التركي الحالي أردوغان بداية من عام 2007 حين قال على إحدى قنوات التلفزة التركية: «أنا لا أتفق مع من يقول إن الدولة العميقة غير موجودة، بل هي موجودة، وكانت موجودة دوماً، ولم تبدأ مع الجمهورية؛ فهي تعود للأزمنة العثمانية. إنها ببساطة تقليد، ومن الواجب تقليلها، ولو أمكن مسحها من الوجود». لذا يعد أردوغان أكثر من يعلن عن مواجهتها.
ورغم هذا التاريخ الحافل لمصطلح «الدولة العميقة» في تركيا، وإيمان كثير من الأتراك بوجودها إلا أن أغلب الباحثين المحايدين يرون أنها توليفة من حقائق واقعية وقصص خيالية تنسج من أساطير قديمة مثل أغلب نظريات المؤامرة وقصصها الجاهزة المريحة للحيارى والمؤدلجين، بدلاً من البحث الجاد عن أدلة ملموسة وحيثيات موضوعية.
لكن فكرة «الدولة العميقة» وسعها البعض إلى مصر وباكستان، باعتبارهما يشابهان تركيا في قوة المؤسسة العسكرية والإدارة البيروقراطية، ومددها بعض آخر إلى روسيا بحكم التركة الضخمة للاتحاد السوفييتي. والآن امتد مصطلح «الدولة العميقة» حتى وصل لأمريكا رغم عراقة ديمقراطيتها وشفافية مؤسساتها.. هنا يتصاعد استخدام المصطلح إلى حد حرج قد ينسف معناه الاصطلاحي ليصبح تعبيراً لغوياً ذا معنى إنشائي فضفاض.. وهنا نحتاج إلى وقفة: هل يوجد في أمريكا «دولة عميقة»؟
ثمة شكوى في إدارة ترامب من مراقبة الاستخبارات على حملة ترامب الانتخابية، وتذمرهم من تنفيذ بعض موظفي البيت الأبيض لأجندة أوباما، ومن عمل وكالة الاستخبارات ضدهم، ومن رفض القضاء لأوامر ترامب التنفيذية.. إلخ. ورغم أن المتحدث باسم البيت الأبيض شون سبايسر رفض استخدام «الدولة العميقة» التي سأله بها الصحفيون، إلا أنه قال: «بلا شك عندما يكون حزب واحد في السلطة لمدة ثمان سنوات، يظل أشخاص يواصلون تبني أجندة الإدارة السابقة». لكن هناك من يرى أنها أكثر من بقايا بيروقراطية مثل توماس ماسي، عضو مجلس النواب الجمهوري الذي قال: «أنا أشعر بالقلق أنه شيء أكبر من ذلك بكثير.. أخشى أنها محاولة، من الذين يريدون مواجهة مع روسيا أو دول أخرى، لدفع الرئيس ترامب بهذا الاتجاه»..
أما المحلل الأمني الأمريكي روبرت باير فيرى أن الترويج لمواجهة إدارة ترامب لما يسمى بـ»الدولة العميقة»، هي «نظرية مؤامرة» من مجموعة «اليمين البديل»؛ لكن ليس لدينا دولة عميقة في الولايات المتحدة.. لدينا مسربون من الجمهوريين والديمقراطيين ولكنهم ليسوا منظمين ولم ينظم أي أحد ذلك.. أعتقد أن النزول في حفرة نظرية المؤامرة لن يجعلنا نصل إلى أي مكان..
أخلص إلى القول إن «الدولة العميقة» هي غالباً بقايا النظام السابق المنتشر في كافة قطاعات الدولة، قد يكون إرثه قوياً ليؤثر في القرارات المصيرية للدولة وقد يكون خلاف ذلك.. كما قد يكون النظام الجديد هشاً مشكلاً فراغات يملؤها بقايا النظام القديم بشكل طبيعي.. أما القول إن أجهزة الاستخبارات تتجسس فهو كما قال نيكولاس ويفير، مدير الأبحاث بالمعهد الدولي لعلوم الكمبيوتر بجامعة بيركلي: «إن ما حصل ليس بالأمر الجديد.. إن تجسس وكالة الاستخبارات يشبه قولك إن المياه مبتلّة، إنهم يؤدون مهامهم».