د.عبد الرحمن الحبيب
أهداني مفكر سعودي كتابين من تأليفه، فشكرته وقلت متحمساً: سيكونان كتابين مؤثرين على مئات المثقفين. قال بأسى: أنت واهم، سأكون محظوظاً لو قرأهما أناس بعدد أصابع اليدين، لقد كتبت عشرات المقالات النقدية، ولم يأتني تعليق.. لم يعد أحد يقرأ الصفحات الثقافية حتى المثقفين أنفسهم!
كتبت الأديبة والصحفية هالة الناصر مقالاً مؤثراً بعنوان «الغذامي وفتنة مغازلة العوام!»؛ خلاصته أن المثقف عموماً والسعودي خصوصاً، يعاني من عزلة لأن قنوات الإعلام صارت بيد العوام الذين يسعى إليهم المعلن الذي فرض على القنوات نوعاً المحتوى الإعلامي. العملية صارت تجارة بحتة لا يتقنها أغلب المثقفين، فمفكر مثل عبد الله الغذامي يستحق شهرة أكثر مما هو عليه، تنازل عن فرادته في النقد الأدبي واختار أقصر الطرق للشهرة من خلال ركوب موجة وعظ العوام ودغدغة مشاعرهم، تنازل عن رسالته الفكرية واختار الرسائل العاطفية، وفقاً لهالة الناصر.
هل نلوم الغذامي؟ هناك مثقفون يلومونه لأنه تخلى عن دوره الريادي في العمل الفكري من أجل كسب الشعبية التي يفتقدها المفكرون؛ وآخرون لا يرون غضاضة في ذلك، أما محبوه فلسان حالهم عن الغذامي، قول الشاعر:
إذا محاسني اللاتي أدلُّ بها.. كانت عيوبي فقل لي كيف أعتذرُ؟
وإذا حاولتُ إيجاز رد الغذامي نفسه على اللائمين، فهي أنهم يستخفون بوعي الجماهير، وأنه اختار النشاط الاجتماعي العام المؤثر على النشاط النخبوي الضيق غير المؤثر. أما حسب قانون «العرض والطلب»، فالطلب هنا فرض نفسه على العرض، على خلاف ما عهدناه من استقلالية المثقف وإن كانت نسبية.
في قانون العرض والطلب القديم كان العرض الإعلامي على مستوى العالم يتفوق على طلب الناس، لأن القنوات محدودة تديرها مؤسسات سياسية وإعلامية وثقافية. المعادلة تغيرت بوجود وسيط جديد، وهو الإنترنت المفتوح للجميع استقبالاً وإنتاجاً، فصارت الناس تفرض شروطها، بل تنتج قنواتها. إنما الإنترنت لم يأتِ وحده بل هو نتاج تكنولوجي شكلته العولمة الرأسمالية بثقافتها الاستهلاكية، فتأسست ثقافة إعلامية تقوم على المعادلة التالية: المواقع الإعلامية تريد الربح، والربح يعتمد على الإعلان التجاري، والمعلن يهمه ما يرضي المستهلكين.. النتيجة سيادة الثقافة الاستهلاكية.
عبر هذه الثقافة يتأسس المبدأ الإعلامي الأول: «تريد الربح، اجذب الانتباه» أياً كان، لأنه سيجلب الإعلان المموِّل لعملك. فمن يستطيع مقاومة إغراءات المال والنجومية التي تتنازل عن الجودة مقابل الربح، وعن الجديَّة مقابل الشهرة، وعن الإبداع مقابل النمطية؟ المحصلة العامة: تراجع المسؤولية الاجتماعية أمام ضغط الإعلان التجاري.. تراجع استقلال المثقف أمام ضغط المستهلك..
ثمة تيار عولمي جارف قائم على مبدأ الربحية محولاً كل عمل مهما كان إنسانياً إلى سلعة تباع وتشترى في حراج الإنترنت. مفتاح النجاح هنا، هو «الشعبوية»: الفكر المستند على خطابات حماسية تدغدغ مشاعر الجماهير لكسب تأييدهم العاطفي المتذمر من الأزمات المعقدة، وتبسيط حلها بشعارات فاقعة. الشعبوية بهذا المعنى تناقض العقلانية المستندة على أفكار جادة تعتمد الواقع من معلومات ودراسات تخاطب عقول الناس ومصالحهم الفعلية.
العقلانية نفسها تواجه مأزقاً آخر، فالمعلومات يطلقها الإنترنت من كل حدب وصوب، وهذا مصدر عظيم النفع، لكنها معلومات مشتتة دون تركيز يربط بينها، فتقلصت المعرفة التي لا تتشكل إلا بربط المعلومات ببعضها؛ ومن هنا نفهم عبارة الفيلسوف جاك دريدا: «زادت المعلومات وقلت المعرفة». صار الإنترنت يشكل حالة تشتيت لأي شخص يعمل، خاصة العمل الفكري، إذ أصبح «الحصول على المعلومات من الإنترنت مثل محاولة الحصول على كأس ماء من شلالات نياجرا»، حسب وصف العالِم وكاتب الخيال العلمي آرثر كلارك.
الظاهرة الشعبوية ماضية بطريقها دون هوادة مستعمرة كافة أشكال التعبير بوسائل مبتكرة لغاياتها، غير عابهة بالمفكرين والمبدعين، مما أدى إلى تفكيك مفهوم المثقف المستقل كصاحب رسالة ومفكر أو فنان مبدع، كما تستنتج آخر الدراسات عن مستقبل المثقفين (ماريا بيريز). بعض المثقفين في الغرب ساير التيار في مواقع التواصل الاجتماعي، دون أن يستطيع منافسة نجومها الشعبويين، وبعضهم تجنبها باعتبارها تمثل مواقع قلق لكاتب هاجسه النص كما يقول إمبرتو إيكو (الروائي والمفكر الإيطالي)، بينما بعضهم ناصبها العداء لأنها تعج بالهراء والسخف حسبما يرى الروائي الألماني غونتر غراس.
بالعودة للمشهد السعودي في ظل تلك التحولات الحادة، هل الثقافة خاضعة لطلب المستهلك أم لعرض المنتج؟ أحياناً تلاحظ أن المثقف يلهث وراء طلب المتلقي مستجيباً لرغباته، وأحياناً تلاحظ العكس، يتلاعب بعواطفه عبر أوتار مؤثرة (دينية، عرقية، معيشية) كي يتابعه. إنما لو رصدت المشهد ستجد أن الطلب الآن يفرض العرض.
صار أغلب الجمهور لا يعرف كبار المفكرين والنقاد.. بدأ يتلاشى دور المثقف الذي عهدناه، فثمة مبدعون فكراً وثقافة ونقداً بالكاد نتذكرهم الآن، رغم أنهم ما زالوا ينتجون. بعضهم طواه النسيان، وبعضهم ساير مواقع التواصل الاجتماعية حسب الطلب الشعبوي.. وهناك في الزوايا الهامشية بمواقع الإنترنت أو البرامج النادرة في الفضائيات ثمة من يراهن على طريق ثالث وعر يجمع بين الإبداع والجماهيرية.. لكنه حتى الآن لا يشكل جزءاً مؤثراً في المشهد.. فهل يكتب له النجاح؟