«الجزيرة» - أحمد المغلوث:
عندما كنت فتى صغيرًا، لم أصل لمرحلة البلوغ بعد، كنت في الإجازات علي أن أسافر لابن خالتي الذي يعمل في الظهران في إدارة العلاقات العامة، لأكثر من سبب: أولاً: لمشاهدة السينما في المساء، وفي الصباح أتردد على المكتبة. وكان أيامها الموظفون يسكنون في مجمعات (لينات)، كل اثنين في غرفة واحدة، ويتفنن البعض منهم في تحويلها إلى شقة صغيرة، تشبه مع اختلاف بسيط نظام شقق (الاستوديو) الحالية، اللهم إلا أنه لا يوجد داخلها دورة مياه أو مطبخ، لكن يوجد فيها ركن لإعداد القهوة والشاي. وأذكر في بعض الليالي أنه كان يجتمع مجموعة من سكان هذا «اللين» أو ذاك من الموظفين حول طعام مشترك، تم إعداده في مطبخ السكن. وقد لاحظت أن مجموعة منهم يعملون في الشركة في أعمال يدوية مباشرة؛ فهذا ميكانيكي، وذاك كهربائي، وثالث يعمل نجارًا، مع أنهم ينتمون إلى قبائل شهيرة. وكانت أيامها ثقافة العيب للأعمال اليدوية سائدة في المجتمع بصورة ممجوجة. وعندما عدت إلى غرفة ابن خالتي لم أتردد في سؤاله «ألا يخجل هؤلاء من العمل اليدوي؟». فكاد يصفعني على وجهي، لكنه ذهب يشرح لي أهمية العمل، وأنه ضرورة حياتية لكل إنسان، بل يعتبر ضرورة دينية ودنيوية كما أشار إلى ذلك رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم-. وراح أبو مازن -رحمه الله- يشير باعتزاز وفخر إلى أن هؤلاء -وغيرهم كثير- هم الذين وراء تنامي أعمال الشركة (أرامكو) أيامها، بل أكد أن العديد منهم يشعرون بالاعتزاز بقيمة ما يقومون به من أعمال، وخصوصًا أن بعضهم تلقى دورات تدريبية مكثفة داخل الشركة وفي لبنان وحتى في أمريكا، وهم وراء الإنجازات والنجاحات التي حققتها الشركة.. فالشركة منذ البداية - وهذا يُحسب لها - مع كل تقدير اهتمت بالمواطن الذي التحق بالعمل فيها؛ فكان نتيجة هذا الاهتمام والتدريب ما حققه هؤلاء من أعمال مختلفة. ولا شك في أن مختلف دول العالم التي تفوقت على الدول الأخرى قد اهتمت بالعمل والعمال، بل ركزت على عمليات التعليم الفني والتقني والصناعي وحتى التدريب على مختلف الحِرف.. فعندما يتوافر العمل أو بشكل آخر مهنة فهذا يعني عدم حاجة الإنسان للغير، ولن تجد من يطلب حسنة أو سؤال الناس.. فالعمل قديمًا وحاضرًا ومستقبلاً ليس ضرورة فحسب، بل هو نهج الحياة وروحها.
وتراثنا الإسلامي حافل بالنماذج الكثيرة التي تؤكد لنا أهمية العمل.. ويكفي أن نشير هنا في هذه «الإطلالة» في هذا اليوم إلى أن رسولنا -عليه أفضل الصلوات والتسليم- كان قدوة في العمل مع أصحابه أنصارًا ومهاجرين، وقلما تحدث التاريخ عن عظيم من العظماء في دولة ما أو أمة شارك في أعمال أتباعه وأصحابه وأبناء مجتمعه كما فعل رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم-. وجميعنا قرأ حكاية مشاركته -صلى الله عليه وسلم- في حفر الخندق؛ فكان أحيانًا يحمل معهم التراب، وأحيانًا يحفر، وأحيانًا ينشد؛ لينشط العاملين، ومن ذلك إنشاده قول عبد الله بن رواحة حتى آخر القصيدة:
«اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة». وكانوا يجيبون:
نحن الذين بايعوا محمدا
على الجهاد ما بقينا أبدا
وورد في القرآن الكريم: {... فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. وفضل الله هو العمل والسعي إلى اكتساب المعيشة.
وجاء رجل من قريش إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يطلب مالاً فأعطاه، ثم قال له: «اليد العليا خير من اليد السفلى». فحلف ألا يسأل أحدًا بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأقبل على العمل؟!